د. مندور عبدالسلام فتح الله يكتب : مصر وازمة التعليم المزمنة


في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الانظمة التعليمية، تكثر التساؤلات عن سر نجاح دول مثل فنلندا وسنغافورة في تحويل أنظمتها التعليمية إلى مصانع للإبداع والتنافسية العالمية، في الوقت الذي تُصنَّف فيه مصر بين أكثر دول العالم في "فقر التعلُّم" (70% من طلابها لا يُجيدون القراءة الأساسية وفقًا للبنك الدولي)، هذا المقال يُقدِّم تشريحًا تفصيليًّا لأزمات التعليم المصري عبر عدسة مقارنة مع أربعة نماذج عالمية، ويستنبط خريطة طريق للإصلاح تستلهم نجاحات تلك الدول دون إغفال الخصوصية المصرية.
تناقضٌ صارخ بين الواقع والطموح تُجمع التقارير الدولية) اليونسكو 2023، PISA 2024 )على أن التعليم المصري يعاني من انفصام استراتيجي: بينما تُعلن الدولة سعيها لبناء جيل قادر على مواكبة الثورة الصناعية الرابعة، لا تزال المنظومة ترزح تحت وطأة سياسات متغيرة، ومناهج نظرية عفا عليها الزمن، واختبارات تقتل الإبداع. وفي المقابل، تقدم النماذج العالمية درسًا واضحًا: التميز التعليمي ليس ضربة حظ، بل نتاج رؤية مُتماسكة واستثمار طويل الأمد. فكيف تقارن مصر بجيرانها العالميين؟هناك فجوات خمس كُبرى: من الرؤية إلى التطبيق وهي:
1.الاستراتيجية: خططٌ ورقية أم مشروع وطني؟ بينما ترسم فنلندا وسنغافورة سياسات تعليمية لعقود قادمة (خطة فنلندا 2025 لدمج الذكاء الاصطناعي، ورؤية سنغافورة 2030 "مدرسة لكل موهبة")، تتأرجح مصر بين شعارات إصلاحية متضاربة. التغيير المتكرر للوزراء (5 وزراء في 8 سنوات) يكرس غياب رؤية واضحة، مما يُفقد المنظومة الاتجاه.
2. المناهج: معركة بين الحشو والإبداع: تشبه الكتب المدرسية المصرية "موسوعات متنقلة" (70% محتوى نظري) تلهث وراء كمّ المعلومات على حساب المهارات. وفي الوقت ذاته، تُخصص كوريا الجنوبية 30% من اليوم الدراسي للبرمجة، وتدمج اليابان أنشطة "التعليم من خلال الخدمة" لتعزيز القيم المجتمعية. السؤال الجوهري: هل نُعلِّم أبناءنا للحفظ أم للتفكير؟
3. المعلم: بين التهميش والتمكين: يُجسد الفارق بين معلم مصر (10 ساعات تدريب سنويًّا، راتب لا يتجاوز 200 دولار) ونظيره الفنلندي (500 ساعة تدريب إلزامي، راتب يتجاوز 4000 دولار) جوهر الأزمة. فبدون معلم متمكنٍ ومحفَّز، تتحول أفضل المناهج إلى حبر على ورق.
4. التمويل: أين تذهب موارد الأمة؟تُنفق مصر 2.1% من ميزانيتها على التعليم (220 دولارًا للطالب سنويًّا)، بينما تضخ فنلندا 6.2% من ناتجها المحلي. المفارقة الأقسى: الأسر المصرية تنفق 47 مليار جنيه على الدروس الخصوصية – ما يكفي لبناء 100 ألف فصل دراسي!
5. التقييم: امتحاناتٌ أم إعدام للإبداع؟ تحوَّلت الثانوية العامة إلى "مقصلة تربوية" تختزل مستقبل الطالب في ورقة امتحان واحدة، بينما تعتمد فنلندا والسويد تقييمًا تراكميًّا يرصد نمو الطالب المعرفي والاجتماعي.
التحديات الهيكلية: جبالٌ في طريق الإصلاح: لا تكمن المشكلة في المناهج أو الاستراتيجيات فقط، بل في بنية تحتية منهكة: عجزٌ يفوق 250 ألف فصل دراسي.
- 80% من المدارس تخلو من معامل الحاسوب 40% من المدارس تعمل بنظام الفترتين.
هذه الأرقام – وفقًا لتقرير البنك الدولي 2022 – تُفسر لماذا تُشبه المدارس الحكومية المصرية "خزانات بشرية" أكثر من كونها بيئات تعلُّم.
خريطة الإصلاح: دروسٌ عالمية بلمسة مصرية:لا يكفي استنساخ النماذج العالمية، بل نحتاج إلى "توطينها" عبر: خطة عشرية (2030-2040) دمج التكنولوجيا في المناهج (برمجة، ذكاء اصطناعي)، وتخفيض المواد النظرية إلى 40%، وإضافة مسارات مهنية (كهرباء، برمجيات، سياحة)، وثورة في تدريب المعلمين ربط الترقيات بـ 200 ساعة تدريب سنوية،وإلزام حاملي التخصصات العلمية بالحصول على ماجستير تربوي، وشراكات ذكية مع القطاع الخاص، وتحويل المنصات التعليمية (مثل "ذاكر") إلى شركاء في تطوير المحتوى الرقمي، واستثمار 20% من أرباح الشركات الكبرى في بناء المدارس التكنولوجية، وتحرير الطلاب من "سجن الثانوية العا مة، واستبدال الامتحانات المركزية بتقييم تراكمي (مشاريع، مشاركة مجتمعية)، وإلغاء الأسئلة "التعجيزية" التي تُحوِّل التعليم إلى سباق محموم.
الخلاصة: التعليم.. معركة مصر القادمة التجارب العالمية تُثبت أن إصلاح التعليم ليس ترفًا، بل شرطًا للبقاء في خريطة العالم التنافسية. النجاح يتطلب جرأة في تبني سياسات هجينة: مرونة فنلندا، انضباط سنغافورة، وقيم اليابان المجتمعية، مع استثمار لا يقل عن 6% من الناتج المحلي. لكن التحدي الحقيقي ليس في الموارد، بل في الإرادة السياسية لتحويل التعليم من "وعود انتخابية" إلى مشروع وطني تُشرق عليه شمس كل حكومة.
***ا.د. مندور عبد السلام فتح الله
خبير تربوي، مدير المركز القومي للبحوث التربوية سابقً