د.محمد أبو علي يكتب: نارسيوس القبيح


يقول الشاعر أحمد علام :
أنا هنا بلا أحدْ
على ضفاف النهر جالسٌ نَكِدْ
فى ركنيَ القصيّ
مغازلاً لصورتي مقبلاً يديّ
محدق بوجهيَ الجميلْ
و معجب بشعري الطويلْ
أقول في سأمْ :
أريد أن أرى أحدْ
لكنني أعودْ
أقول في سريرتي
لصورتي :
ما أجملك!
يا ليتني أقبلك!
ما رأيتُ مثلك أحد
مارأيتُ غيرك أحدْ
و ما رآني منهمُ أحد
تُرى أغيرى فى الحياة من وُلِدْ ؟!
نص من قصيدة اعترافات نارسيوس للشاعر أحمد علام
هذا النص يمثل بعض ملامح الشخصية النرجسية التي أري اختصرت بعض صفات النرجسي .
النرجسي.. طاغوت الصورة الذي يلتهم الأخضر واليابس :
ليست النرجسية مجرد حبٍ للذات، بل هي إمبراطورية وهمية يسكنها فرد واحد: هو السيد، هو العبد، هو كل شيء ! إنها ذلك السرطان الذي يبدأ بلفظة أنا ثم يتحول إلى سيف يذبح كل نحن .
النرجسي لا يكره الناس، لأنه ـ بكل بساطة ـ لا يرى أحدًا سوى صورته المنعكسة في مرايا الكون.
يسألون:
لماذا يلهث وراء الشهرة كالمجنون؟
لأن الشهرة بالنسبة له ليست مجرد ضوء، بل هي أكسجينٌ لا يستطيع العيش بدونه. إنه يريد أن يكون النجم الوحيد في السماء، حتى لو اضطر لإطفاء كل الكواكب!
حتى لو اضطر لإطفاء كل الكواكب!
حتى لو اضطر لإطفاء كل الكواكب!
المفارقة العظمى أن النرجسي يبني سجنا فاخرا لذاته، ثم يكتشف أنه السجين الوحيد فيه. تراه يتحدث عن الانتصارات، لكن قلبه ممزق بخوف من أن يسرق أحد منه الأضواء. يحارب من يمد يده إليه بحجة الاستقلالية، لكن الحقيقة أنه يخاف أن يكشف الآخرون أن إمبراطوريته مبنية على رمال!
التاريخ يخبرنا أن الطغاة العظماء سقطوا حين ظنوا أنهم لا يحتاجون إلى أحد، فكيف بحال طاغوت صغير لم يمتلك إلا بضعة متابعين على السوشيال ميديا؟
لماذا يرفض النرجسي الشراكة؟
السر في ثلاث كلمات:
الخوف من المُنافس .
النرجسي يعلم في أعماقه أن بريقه الزائف قد يبهت أمام شمعة حقيقية، لذا يفضل أن يحكم الصحراء وحده على أن يشاركه أحد واحة خضراء.
يرفض أن يكون عضوا في فريق لأنه يريد أن ينسب كل الإنجازات لنفسه، حتى تلك التي لم يفعلها.
الشراكة.. لماذا يراها النرجسي جريمة يعاقب عليها التاريخ؟
النرجسي لا يرفض الشراكة لأنه قوي بدرجة تغنيه عن الآخرين، بل لأنه ضعيف لدرجة أن يخاف من ظله! إنه يدرك في أعماقه أن وجود شريك يعني بالضرورة كشف حقيقته .
كيف لمن بنى تماثيل من وهم في قصور من رمل أن يقبل بمن يسلط الضوء على هشاشة قواعدها؟
الشراكة انتحار فعلي للنرجسي ، فهو دائما واحد بلا أحد كأن غيره في الحياة ما ولد علي حد تعبير أحمد علام .
النرجسي ليس مجرد شخص يحب نفسه، بل هو دولةٌ منفردة ترفع شعار :
أنا هنا بلا أحد
كأن غيري في الحياة ما ولد .
الشراكة في عينيه ليست تعاونا، بل غزو لمملكته الوهمية المتوحد فيها مع نفسه .
تخيلوا رجلا اعتاد أن يكون الكاهن والمصلي والمصلي ـ بفتح اللام وكسرها ـ في معبده، كيف يقبل أن يدخل غريبا إلى قدس الأقداس؟
إنه يفضل أن يخسر المعركة وحيدا على أن يربحها بصحبة آخرين، لأن النصر المشترك يشعرهم بأنه مجرد رقم في معادلة النجاح.
النرجسي يريد أن يسرق المجد كله، حتى لو كان المجد سرابًا.
الشرير في قصة النرجسي ليس حبه لذاته، بل كراهيته للحقيقة. الشريك مرآةٌ تعكس أخطاءه، وتكشف أن الملك العظيم ما هو إلا إنسان عادي جدا .
هل سمعتم عن طفل يختبئ تحت الغطاء ليتوهم أن العالم اختفى؟
النرجسي يفعل الشيء نفسه:
يغلق باب الشراكة ليتوهم أن أخطاءه اختفت!
لماذا لا يقبل النرجسي العمل الجماعي :
لأن عقله يعمل بمنطق القطبين: إما أن يكون النجم الوحيد، أو لا يكون.
حاول مرة أن تقول له: لنتقاسم النجاح، وسيردد في سره:
أنا هنا بلا أحد .
وحدي وحيدا أنتظر .
التقسيم يعني أنك أو من يريد شراكته سيسرق مرآة المجد التي لا يري فيها إلا صورته ..
إنه جائع للمجد لدرجة أنه لا يشبع إلا إذا ابتلع كعكة جرثومة المجد وحده حتى لو اختنق!
النرجسي يرفض الشراكة لأنه يعيش في زمن مواز، ظانا أن التاريخ سيُعيد كتابة نفسه ليتوافق مع أوهامه. لكن الحقيقة التي سيدركها متأخرا هي:
السفينة التي لا تحمل إلا بحارا واحدًا.. مصيرها الغرق .
السفينة التي لا تحمل إلا بحارا واحدًا.. مصيرها الغرق .
كيف تعرف أنك أمام نرجسي؟
-يحول كل حوار إلى سيرة ذاتية : تحدثه عن المجاعة في أفريقيا، فتجده يقول: أنا أيضًا عانيتُ يومًا من الجوع حين نسيتُ إفطاري!
- يستعجل إنجازات وهمية:
يفضل أن يسرق بحثا جامعيا على أن ينتظر سنة لينجح بمجهوده.
- يستخدم الضحية سلاحا:
إذا انتقدته، يتهمك بالغيرة.. إذا تخليت عنه، يقول إن العالم ظالم!
- يعشق الكاميرات ويكره المرايا: يريد أن يظهر للعالم كالبطل، لكنه يهرب من مواجهة عيوبه في الخفاء.
لماذا فشل النرجسيون في قيادة التاريخ؟
لأن التاريخ لا يكتب بأقلام الأفراد، بل بدماء الجماعات. انظر إلى هتلر الذي ظن أن عبقريته ستقهر العالم، فانتهى منتحرا في مخبأ مظلم. واقرأ سيرة نيرون الذي أحرق روما ليشبع غروره، فخلده التاريخ كمجنونٍ لا كعظيم.
النرجسيون طواويس : مظهرهم مبهج، لكنها لا تستطيع الطيران إلى الأعالي!
هل نعيش في عصر النرجسية الذهبي؟
وهل يوجد في أيامنا هذا نرجسيون لا يرون أحدا في عالمهم ؟
نعم.. فالسوشيال ميديا حولتنا إلى سلةٍ من التفاح الفاسد: كل يريد أن يظهر أحمر اللون، حتى لو كان العفن ينهشه من الداخل!