الأحد 4 مايو 2025 09:09 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : وجع عربي لا ينتهي

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

تأملتُ حال الأمة، ففاض القلب وجعًا، واللسان ما عاد يجد حروفًا تعبّر عن هذا الانحدار السحيق الذي وصلنا إليه. كأنما العرب كُتب عليهم أن يعيشوا في دوامة لا تنتهي من الانكسارات، كأن الجراح أضحت قدَرًا، والتشرذم عقيدة، والانصياع للخارج هوية.

سوريا، الحبيبة الجريحة، التي كانت يومًا درع الأمة الثقافي والسياسي، ضُرب قصرها الرئاسي، وسقطت هيبة الدولة، وتشظى القرار بين موسكو وطهران وواشنطن وتل أبيب. لم تعد سوريا لسورييها، بل أصبحت ساحة صراع إقليمي ودولي، والأدهى من ذلك أن دعم بعض الأقليات، مثل الدروز، تحوّل إلى "مسمار جُحا" جديد تُركب عليه كل نوايا الاحتلال المقنعة بثياب الحماية.

الأتراك؟ لا صوت يعلو على تصريحاتهم، ولا أثر يُذكر على الأرض. أقوال بلا أفعال، شعارات حماسية بلا مضمون حقيقي، وأطماع عثمانية تتجدد في ثوب جديد، تريد أن تمدّ نفوذها وتعيد أمجادها الموهومة، على حساب شعوب تتوق إلى حريتها لا إلى استبدال مستعمر بمستعمر.

اليمن المنهك، الحزين، ما زال غارقًا في الدماء بين معسكرات متناحرة لا تعرف للوطنية معنى، ولا للسلام سبيلًا. وطن مقسوم بين الشرعية والحوثي، والواقع أنه ضحية لصفقات لا مكان فيها لليمنيين. بلد الحكمة والحضارة أُغرق في الجوع، والأوبئة، والضياع.

العراق، مهد الحضارات، تُنهب ثرواته ليل نهار، ويتقاتل فيه الإخوة على هويات فرعية، بينما الوطن يُسلَّم مقسمًا على مائدة القوى الكبرى، وليبيا تسير في الدرب ذاته، يُقسم ترابها بين ميليشيات ومصالح، والكل يُشرعن الطمع باسم "الشرعية" أو "الوفاق".

السودان؟ غارق في دماء أبنائه. من دارفور إلى الخرطوم، لا مكان للسلام، والموت يحصد الأرواح كما تحصد الريح أوراق الخريف، بلا توقف، ولا من يصرخ: "كفى!"، بينما العالم العربي يكتفي بالمراقبة، وكأن ما يحدث لا يعنيه.

أما غزة، تلك التي تمثل آخر رمق للمقدسات، فقد أصبحت مختزلًا لقضية فلسطين بأكملها، وبهذا الاختزال الخبيث، سُهّل الاستفراد بها، فذُبحت أمام العيان، وصرخات نسائها وأطفالها تصطدم بجدران الصمت، ومذابحها تُبث على الهواء مباشرة دون أن يرتجف للعالم جفن.

العدو الصهيوني بلغ من الجبروت مبلغًا ما بلغه طاغية قبله، يضرب بيد من نار وحديد، ويُصفّي المقاومين، ويقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، والعالم "المتحضّر" يغطّي عينيه بضمير ميت، ويغطّي أذنيه بإعلام موجه لا يرى في المجازر إلا "حقًا في الدفاع عن النفس"!

الثورات؟ سُرقت قبل أن تُولد. غُرّر بالشعوب، فخرجت تطالب بالحرية لتقع فريسة في يد عملاء الداخل والخارج. من آمن بالحلم قُتل أو شُرّد، ومن تمسك بالوطن اتُهم بالعمالة، وأصبح الخائن زعيمًا والمرتزق مفكرًا، والمواطن الشريف يُحاصر ويُسجن أو يُطرد.

المغفلون لا يزالون يصفقون لشعارات قديمة، يظنون أن الثورة هي الكلمة، لا الفعل، لا المشروع، لا الوعي. أما الجامدون، فأسارى ذاكرة لا تلد جديدًا، يكررون المرار وكأن الزمن لا يتغير، لا يطرحون حلولًا بل يُعيدون إنتاج الكارثة كل يوم.

الفرقة؟ أصبحت مذهبًا يتعبد به البعض. يُكفّر الأخ أخاه، ويُخوّن الشريف، وتُضرب الدعوات إلى الوحدة والتماسك بالسخرية والشتائم، وكأننا نكره بعضنا أكثر مما نكره عدونا.

الوطنية تحوّلت إلى تُهمة، ومن يحذر من ضياع الوطن يُتّهم بالخيانة أو الجبن، أما من يعبث بمقدراته فيُصفق له ويُحتفى به كزعيم. أصبح اللعب بالنار بطولة، وإطفاؤها تخاذلًا.

الفكرة ماتت، والإبداع قُتل، والمستقبل رُجم. لم يعد لدينا حلم قومي، ولا مشروع تنموي، ولا صوت يجمع ولا وجدان يوحّد. الإعلام إما مأجور أو مأسور، والتعليم بات أداة للجهل الممنهج، والمثقف أُقصي أو صُنف كخطر، بينما تسلقت السطحيات منصات التأثير.

وفي خضم كل هذا الظلام، لا نجد إلا بابًا واحدًا لا يُغلق: باب الأمل في الله.

وصدق القائل:

ولو كان همًّا واحدًا لاحتملته... ولكنه همٌّ، وثانٍ، وثالثُ.

نحن في زمن تتكالب فيه الأمم علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها، ولكن لا بد من وقفة، لا بد من صحوة، لا بد من قلوب تحترق وتُحيي، لا بد من رماد ينبعث منه شعاع فجر قادم… ولو بعد حين.