محمد سعد عبد اللطيف يكتب : ”صرخة في البرية: حين باعت القرية ظلها ومات السائق”


عندما يبكي الرجال، لا يكون البكاء ضعفًا، بل احتجاجًا أخيرًا على عالمٍ فقد بوصلة الرجولة. في زمن أنصاف الرجال، لا نعلم من أبكاك حقًا: أهو الزيف؟ أم الخيانة؟ أم الصمت المطبق الذي خنق الكلمة الصادقة قبل أن تبلغ غايتها...؟
في قريةٍ فقدت المعنى، لم يعد للكلمة ثمن، ولا للرؤية احترام. الكلمة الصادقة تُقصى وتُنفى، فقط لأنها خرجت من فمٍ لا يجيد التزلف، ولا يحترف الطبول. صارت الحقيقة منبوذة، وصاحبها مستهدف، لأنه يرى أبعد من أنوف أولئك المتكئين على أوهام الحكمة.
الناس اعتادوا الظلال، وصنعوا من أصحاب الصوت العالي آلهةً من ورق، عبدوهم لا لأنهم يستحقون، بل لأنهم يخشون الفراغ. الفكر السطحي لم يعد مجرد عَرَض، بل أصبح سائدًا، يُقنَّن، يُدرَّس، ويُصفَّق له.
أما المثقف الحقيقي، صاحب البصيرة، فهو عدو دائم، لأنه يفضح الزيف، ويُربك المسرح الذي أُعدّ بعناية ليبهر العيون دون أن يوقظ العقول. يزعجهم لأنه لا يلعب دور "المؤتمن"، ولا يرتدي الأقنعة التي تشبه وجوههم. لقد أوهموا الناس بأنهم وحدهم أصحاب الرأي والمشورة، وسقط الجميع في فخ التصفيق.
أنا هنا، أصرخ، لا كي أُسمع، بل كي لا أموت صامتًا بين جدران الزيف. أصرخ على أطلال قريةٍ خدعت نفسها بأنها على الطريق، بينما القطار انطلق بلا سائق، وها نحن ننتظر الارتطام. لم يعد السؤال: "متى نصحو..؟" بل: "هل تبقّى من يستحق أن يُوقَظ...؟"
القرية تمشي إلى حتفها في موكب زغاريد زائفة، والناجون المحتملون لا يُسمَع لهم، لأنهم يهمسون بالحقيقة وسط صخب الكذب العالي.أكتب كي لا تُمحى ذاكرتي، وكي لا يضيع ما تبقّى من النور في عتمة العقول المنوَّمة. أكتب لأن السائق مات، ولا أحد يعترف بذلك بعد. وحدهم البسطاء، الواقفون عند النوافذ، يشتمّون رائحة الارتطام، لكنهم لا يملكون إلا الانتظار.المسرح ينهار، والقطار ينتظر الارتطام، والكومبارس على خشبة المسرح ما زالوا يصفقون، والنار تشتعل من جانبي الستار.سلامًا على الصادقين في زمن الأقنعة، وسلامًا على الكلمة، حين تُولد من رحم النار لتظل شاهدةً على الحقيقة,,!!- محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية