زهوة محمد تكتب : شبح التسطيح: تأملات فلسفية ونفسية في وهن الثقافة


في لحظات تاريخية فارقة، يطل شبح مقلق برأسه، ينذر بتآكل النسيج الحضاري وضمور الروح الإنسانية: شبح الانحطاط الثقافي. هذا التدهور لا يقتصر على تلاشي المظاهر البراقة للإبداع، بل يتغلغل عميقًا في أسس الفكر والوجدان، مُهمِلاً الآداب والفنون والفلسفة وعلم النفس، ليترك وراءه فراغًا وجوديًا وقلقًا جمعيًا.
فلسفيًا، يمثل الانحطاط الثقافي تراجعًا عن جوهر الإنسان ككائن مفكر ومتأمل. الفلسفة، بوصفها سعيًا دائمًا للمعرفة والحكمة، تُهمَل لصالح حلول سطحية وإجابات جاهزة لا تحفز العقل أو الروح. يتضاءل السؤال النقدي، ويُستبدل باليقين الزائف والاعتقاد الأعمى. يصبح التفكير العميق عبئًا، والتساؤل عن معنى الوجود ترفًا لا يُغتفر في عالم يسوده منطق النفعية المادية الضيق. هذا الإهمال للفلسفة يقود إلى مجتمع يفقد القدرة على مساءلة قيمه ومعتقداته، ويصبح عرضة للانقياد الأعمى والتطرف الفكري.
نفسيًا، يحمل هذا التدهور الثقافي تبعات وخيمة على الفرد. الآداب والفنون، بثرائها الرمزي وقدرتها على استكشاف أعماق التجربة الإنسانية، تُختزل إلى مجرد تسلية مبتذلة أو سلعة استهلاكية. تفقد القصص قدرتها على نقل الحكمة والتعاطف، وتتلاشى الصور والألحان التي تلامس الوجدان العميق. هذا الإهمال يترك الفرد وحيدًا في مواجهة تعقيدات حياته، مفتقرًا إلى المرآة العاكسة لتجاربه ومشاعره التي تقدمها الأعمال الفنية الراقية.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فعلم النفس، الذي يسعى لفهم خبايا النفس البشرية وتقديم أدوات للنمو والتوازن العقلي، يُنظر إليه غالبًا بشك أو تجاهل. تُهمَل أهمية الصحة النفسية، وتُوصم المشاعر الإنسانية المعقدة. في غياب فهم أعمق لذواتنا ودوافعنا، تتفاقم المشكلات الفردية وتنعكس على العلاقات الاجتماعية. يزداد الشعور بالاغتراب والوحدة، وتتآكل القدرة على التواصل الحقيقي القائم على الفهم والتعاطف. يصبح الفرد أسيرًا لقلقه الوجودي، باحثًا عبثًا عن معنى في عالم فقد بوصلته الفكرية والروحية.
إن إهمال هذه الركائز الأساسية للثقافة لا يخلق فراغًا فحسب، بل يملأه بتفاهة وسطحية. يصبح المجتمع أكثر عرضة للشعارات الرنانة والأيديولوجيات البسيطة التي تستغل حالة الفراغ الفكري والعاطفي. يتراجع الذوق العام، وتنتشر القيم المادية والاستهلاكية على حساب القيم الإنسانية النبيلة. يصبح الإبداع الحقيقي نادرًا، ويحل محله التقليد الأعمى والاجترار.
في نهاية المطاف، يقود الانحطاط الثقافي إلى مجتمع هش وضعيف، فاقد القدرة على التجديد الذاتي ومواجهة التحديات المعقدة. إنه بمثابة موت تدريجي للروح الإنسانية، وتحويل للإنسان من كائن مفكر وخلاق إلى آلة مستهلكة ومنفعلة. إن استعادة قيمة الآداب والفنون والفلسفة وعلم النفس ليست مجرد رفاهية ثقافية، بل هي ضرورة وجودية للحفاظ على إنسانيتنا وبناء مستقبل أكثر وعيًا وعمقًا ومعنى. إنها دعوة لإيقاظ العقل والوجدان من سبات التسطيح، واستعادة شغفنا بالجمال والحكمة والفهم الذاتي.