الثلاثاء 13 مايو 2025 09:45 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

زهوة محمد تكتب: شعلة العقل المتوهجة

الكاتبة زهوة محمد
الكاتبة زهوة محمد

أهمية النقد والشك في رحلة الفهم والنمو والتطور والازدهار..
في صميم التجربة الإنسانية، تتشابك خيوط الفهم والنمو، لتنسج نسيجًا معقدًا من المعارف والقناعات. وفي هذه الرحلة الدائمة نحو الحقيقة والارتقاء، يبرز النقد والشك كأداتين ضروريتين، بمثابة شعلة متوهجة تضيء الدروب المظلمة وتكشف الزوايا الخفية. ليسا مجرد موقف سلبي أو حالة من التردد، بل هما قوتان فاعلتان تدفعان العقل إلى التساؤل، والروح إلى التحرر، والفرد إلى النمو.
من المنظور الفلسفي، يمثل النقد حجر الزاوية في بناء المعرفة الرصينة. منذ سقراط الذي أيقظ أثينا بسلسلة أسئلته المحرجة، مرورًا بديكارت الذي اتخذ الشك المنهجي أساسًا لفلسفته، وصولًا إلى كانط الذي نقد العقل الخالص، أدرك الفلاسفة أن التقبل الساذج للمعطيات يقود إلى الجمود الفكري. النقد هنا ليس هدمًا بغرض الهدم، بل هو فحص وتمحيص وتقييم للأفكار والمعتقدات والأطر النظرية. إنه المساءلة الدائمة: ما هي الأسس التي تقوم عليها هذه الفكرة؟ ما هي الافتراضات الضمنية؟ ما هي نقاط القوة والضعف فيها؟ من خلال هذه العملية النقدية، يتم غربلة الزائف من الصحيح، وتقوية المتين، وتطوير الهش.
أما الشك، فهو ليس نقيض اليقين بقدر ما هو خطوة ضرورية نحوه. إنه حالة من التعليق المؤقت للحكم، وهو فسحة للتفكير العميق قبل تبني أي قناعة. الشك الصحي لا يعني إنكار كل شيء، بل يعني التريث في التصديق، والبحث عن أدلة وبراهين قوية. إنه الحارس الأمين للعقل، الذي يحول دون الوقوع في براثن الأوهام والتصورات المسبقة. يقول فولتير بحكمة: "الشك ليس حالة ممتعة، لكن اليقين سخيف." فالشك يدفعنا إلى البحث والاستقصاء، ويجعلنا أكثر تواضعًا أمام اتساع المعرفة وحدود فهمنا.
على الصعيد النفسي، يلعب النقد الذاتي دورًا محوريًا في النمو الشخصي والتطور العاطفي. القدرة على تقييم أفعالنا وقراراتنا بموضوعية، وتحديد نقاط الضعف والسعي إلى تحسينها، هي علامة من علامات النضج النفسي. النقد الذاتي البناء لا يعني جلد الذات أو الشعور بالدونية، بل هو اعتراف صادق بالعيوب والرغبة في التغيير الإيجابي. إنه الوقود الذي يدفعنا نحو تطوير مهاراتنا، وتعديل سلوكياتنا، وتحقيق أفضل نسخة من أنفسنا.
وبالمثل، فإن القدرة على التشكيك في معتقداتنا وقيمنا الموروثة تلعب دورًا حاسمًا في تحقيق الاستقلالية الفكرية والنفسية. قد نجد أنفسنا أحيانًا متمسكين بأفكار لم نختبرها أو نفكر فيها بعمق، لمجرد أننا ورثناها عن آبائنا أو مجتمعنا. الشك هنا يفتح الباب أمام إعادة التقييم، واختيار ما يتوافق مع قيمنا الحقيقية وفهمنا الخاص للعالم. إنه التحرر من قيود التقليد الأعمى والسير نحو بناء هوية فكرية مستقلة.
ومع ذلك، يجب التأكيد على أن النقد والشك البناء يختلفان جوهريًا عن السلبية المطلقة أو الشك المرضي. النقد البناء يسعى إلى الفهم والتحسين، بينما السلبية المطلقة تنطلق من رفض دائم لكل شيء. الشك الصحي يدفع إلى البحث عن الحقيقة، بينما الشك المرضي يؤدي إلى الشلل والتردد الدائم.
في الختام، يمكن القول إن النقد والشك ليسا مجرد أدوات معرفية، بل هما محركان أساسيان للنمو الفردي والتقدم المجتمعي. إنهما يشجعان على التفكير العميق، والتساؤل المستمر، والبحث الدؤوب عن الحقيقة. في عالم مليء بالمعلومات المتضاربة والأيديولوجيات المتنافسة، يصبح امتلاك عقل نقدي وروح متسائلة أكثر أهمية من أي وقت مضى. إنهما الشعلة التي تنير طريقنا نحو فهم أعمق لأنفسنا وللعالم من حولنا، وتمكننا من بناء مستقبل أكثر وعيًا ورشدًا.