شحاتة زكريا يكتب : اقتصاد بلا فواتير.. هل يذوب السوق في منصات البيع؟


في زمن تتسارع فيه التغيرات الاقتصادية كالعاصفة ، يتبدل وجه السوق كما لم يحدث من قبل. لم تعد التجارة تعتمد على الفاتورة الورقية ولا يحتاج البيع إلى محل أو رف أو ميزان. أصبح الهاتف الذكي هو المتجر والإنترنت هو الطريق، والبضاعة تُعرض وتُباع وتُشحن دون أن يرى أحد المشتري أو البائع أو حتى يدرك أين تتم العملية. نحن أمام واقع جديد يتشكل اقتصاد موازٍ يتحرك بخفة ومرونة لكنه يضع علامات استفهام كبيرة: هل يذوب السوق التقليدي أمام المنصات؟ وهل نعيش بالفعل في ظل اقتصاد بلا فواتير؟
هذا التحول ليس خيالا ولا نظريا. إنه واقع يعيشه ملايين الشباب في مصر والمنطقة ، ممن لجأوا إلى التجارة الإلكترونية بحثا عن فرصة وابتعدوا عن القيود البيروقراطية التي تعرقل أحلامهم. ومن ناحية أخرى فإن المستهلك بدوره ينجذب إلى الراحة والسرعة والتنوع دون أن يطرح الكثيرون سؤالا بسيطا: أين الفاتورة؟ من يحمي حقي؟ ومن يضمن لي أن ما اشتريته مطابق لما وعدت به الشاشة؟
في هذا الاقتصاد غير المرئي تتآكل أسس الانضباط. الضرائب تتراجع، والرقابة تغيب، والتاجر الملتزم يجد نفسه في منافسة غير عادلة مع آخرين يعملون في الظل دون التزامات أو معايير. ومع كل عملية بيع بلا فاتورة يفقد الاقتصاد الرسمي جزءا من وزنه، ويفقد المواطن جزءا من حقوقه وتفقد الدولة جزءا من قدرتها على التخطيط والتوزيع العادل.
لكن الأمر ليس سوداويا بالمطلق. فالدولة المصرية أدركت مبكرا أن هذا الواقع لا يمكن تجاهله ، ولا يصح مقاومته بالعقلية القديمة. كان الحل هو الدخول إلى عمق التغيير وتنظيمه بدلا من منعه. ولهذا بدأت الحكومة في بناء منظومة الفاتورة الإلكترونية وتوسيع نطاق الشمول المالي، وتحفيز الشركات الناشئة على الانضمام إلى الاقتصاد الرسمي ليس بالعصا بل بالحوافز والتسهيلات وإزالة الكثير من العوائق التي كانت تدفع الشباب للهروب من الإطار القانوني.
التجارة الإلكترونية في حد ذاتها ليست خطرا بل فرصة. ولكن الفوضى داخلها هي الخطر الحقيقي. والفيصل ليس في شكل البيع بل في مدى الشفافية والعدل. التاجر الذي يبيع من خلال إنستغرام أو واتساب ليس مذنبا لكنه بحاجة إلى إطار يحفظ له حقوقه ويضمن للمستهلك سلامة ما يشتريه ويمنح الدولة القدرة على حصر الاقتصاد وإدارته بعدالة.
ما يحدث اليوم هو صراع صامت بين سوقين: سوق منظم قائم على الفاتورة والضريبة والتسجيل ، وسوق مواز يبيع ويربح دون أن يترك أثرا. والرهان الحقيقي هو في دمج السوقين لا في محو أحدهما. فالشباب الذين أبدعوا في التجارة الرقمية هم كنز اقتصادي ، يحتاج فقط إلى احتضان ذكي، وإدماج مرن، لا إلى مطاردة تقليدية.
التحدي الأكبر أن السوق يتحول إلى حالة لا يمكن السيطرة عليها إن لم تُؤسس قواعد عادلة وواضحة. فلا يُعقل أن تظل مئات الملايين من الجنيهات تتحرك يوميا في التجارة الإلكترونية دون أوراق ودون معرفة مصدرها، ودون أن تدخل منظومة الاقتصاد الوطني. كما لا يجوز أن يُترك المستهلك دون حماية ، خاصة في بيئة إلكترونية تزداد فيها حيل التزوير والغش.
الفرصة لا تزال قائمة. والدولة قطعت بالفعل خطوات واسعة في هذا الملف. لكن المرحلة القادمة تتطلب وعيا مجتمعيا بأن الفاتورة ليست مجرد ورقة بل وثيقة حماية. وأن الاقتصاد القوي لا يُبنى فقط بالأبراج والمصانع بل أيضا بالفاتورة والإيصال والمعلومة الدقيقة. وأن المستهلك عليه دور مهم حين يُصرّ على الحصول على فاتورته تماما كما للتاجر مسؤولية في الالتزام بالشفافية.
الاقتصاد الجديد لن يتراجع والمنصات الإلكترونية ستتمدّد أكثر. لكن السوق الحقيقي هو من يعرف كيف يتطور دون أن يتلاشى ، وكيف يتوسع دون أن يُفلت من الضبط. وفي النهاية سيبقى السؤال قائما: هل نبني اقتصادا حديثا أم نتركه يذوب في الهواء؟ الجواب بيد الجميع والبداية... من الفاتورة.