الإثنين 28 يوليو 2025 11:38 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : المشهد القبيح

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

في ليلة صيفية هادئة على أحد شواطئ الساحل المصري، الساحل الطيب جداً، حيث تتداخل أصوات الموج مع ضحكات المصطافين، قررتُ أن أختتم يومي بساعتين من التأمل على البحر، فهو طقس معتاد من طقوس المصيف والسهر. في كافيتيريا القرية المتواضعة، جلستُ أراقب المشهد الليلي الذي سرعان ما كشف عن تناقضات مؤلمة، تجاوزت مجرد عادات السهر لتلامس قضية اجتماعية أعمق.

لفت نظري أسرتان متجاورتان. على يميني، أب وأم شابان، يشاركان طفلهما الرضيع لحظات السهر المتأخرة. الأم تحمل طفلها بذراع وتطعمه بالآخر، بينما يُطعمها الزوج قطعة من الفطير، في مشهد يعكس إرهاقاً واضحاً رغم محاولتهما الواضحة للاستمتاع بأقل الإمكانات. على يساري، أسرة أكبر حجماُ، ربما عدة عائلات أو أصدقاء، يضمون أطفالاً من أعمار مختلفة. كان بينهم رضيع آخر يبدو عليه الضيق، ربما كان ذلك وقت نومه أو حاجته للهدوء.

تلك المشاهد الأولية دفعتني إلى التفكير في طبيعة سهراتنا نحن المصريين: كيف نُتعب أنفسنا وأطفالنا في أوقات يُفترض أن تكون للنوم والاسترخاء. لا يبدو أن هناك نظاماً واضحاً يراعي طبيعة الصغار واحتياجاتهم، فنَسهر معهم حتى منتصف الليل، ونقضي أغلب الوقت في شقاء مشترك. تساءلتُ: ما المتعة في سهرة مثل هذه ونحن جميعاً، أمهات ورُضّع، مُنهَكون بهذا الشكل؟ ورغم ذلك، راودني شعور بالتعاطف "حرام يعني، أليس لهم نفسٌ يسهرون؟ ربما لا يوجد من يساعدهم".

لكن ما تلا ذلك غيّر وجهة نظري تماماً. بينما انشغلتُ بالحديث مع شريكي، ظهرت أمامي فتاة نحيلة الجسم، تبدو عليها ملامح الإرهاق والغُلب، تحمل رضيع الأسرة التي على يساري. كانت تتمشى به ذهاباً وإياباً على الممشى، تهدهده وتلاعبه، وأحياناً تُقبّله قُبلة سريعة. لم أستطع إزاحة بصري عن هذه الفتاة الصغيرة التي كانت تقوم بمهمة لا تتناسب إطلاقاً مع عمرها أو تجربتها في الحياة. بدأت أتساءل: هل هي أخته؟ لكن الاختلاف الواضح في الملامح واللون والشكل بينها وبين أطفال الأسرة الأخرى بدد هذا الاحتمال. عندها، بدأ الشك يتسلل إلى ذهني: هل هذه خادمتهم؟!
همستُ لزوجي بالسؤال، وجاء رده مؤكداً لشكوكي. تملكتني مشاعر الأسى والحيرة. "لماذا وكيف؟" تساءلتُ. لماذا تترك أم الطفل رضيعها مع طفلة صغيرة، بينما هي جالسة تتسامر ولا تفعل شيئاً؟ ألم يُوجِعها قلبها على ظهر هذه الفتاة التي لا شك أنها تتألم وهي تحمل رضيعاً وتتحرك به حائرةً كيف تُسْكته؟ إذا كنا نحن الأمهات نشعر بالتعب والألم من وهن الشيل والحط، فما بالك بجسم طفلة صغيرة، هل يتحمل كل ذلك؟

اقترح زوجي أن نغير مكاننا ونجلس مواجهين البحر، بعيداً عن هذا المشهد. وبينما كنا نتحرك، قال: "إذا كان أهلها أنفسهم لم يفكروا في كل هذا، فهل سيأتي هؤلاء الناس ويفكروا فيه؟ ربما أبوها لا يبالي ويمكن راضٍ بالقرشين التي تأتي من ورائها."

لم أستطع أن أخفي كم الألم الذي شعرت به في صدري وجعاً على هذه الطفلة الصغيرة، وكم السخط على أهلها أولاً، ثم على أصحاب البيت الذي تعمل فيه. شعرت بضيق شديد لأحوال ربما دامت منذ زمن بعيد في مجتمعنا، لكنني لم أكن أتصور أنها لا تزال مستمرة بهذا الشكل الصارخ في وقتنا هذا. جلستُ في مواجهة البحر في الليل الدامس، أتابع الموج الأبيض وصوته الرنان، تاركةً المشهد القبيح خلفي، ومتمنيةً ألا أواجهه مرة أخرى في حياتي. هذه الليلة ربما لم تكن مجرد سهرة على الشاطئ، فقد كانت تذكيراً قاسياً بوجود أطفال يُحرمون من طفولتهم، ويُلقى على عاتقهم ما لا يطيقون، في ظل غفلة مجتمعية تستوجب وقفة جادة منا جميعاً.

د. نهال أحمد يوسف المشهد القبيح الجارديان المصرية