وصفى هنرى يكتب من فيينا: نستولوجيا


أحنُّ بشدة لأيامٍ خلت، مضى عليها أكثر من ستين عاما .
أحنُّ لمدرستي المعهد العلمي الخاصة الابتدائية، التي كنت أخرج من البيت قبل طابور الصباح بثلاث دقائق فقط، حيث كنت أعبر الشارع فأكون في المدرسة.
أشتاق للبائعين المتراصّين خلف أسوار المدرسة ببضائعهم العجيبة: حرنكش، حب العزيز ، دوم ، توت أبيض وأحمر ، تفاح أخضر صغير ، والبرتقال الذي كان يشبه البِلْي ويؤكل بقشرته ، غير العسلية والنوجة وحُمُّص الشام .
أحنُّ لألعاب الطفولة : السبع طوبات ، الكورة الشراب التى فشلت فيها تماما مقارنة بأصدقاء الطفولة الموهوبين ، كذلك يا صيادين السمك ، تريك تراك ، كيكا على العالي ، الترنجيلة، “واحد اتنين سرجي مرجي”، النبلة أم أستيك ، المركب أبو بزيت ورتينة اللى كانت في الطشت ولا أجدعها سفينة ، ويا عم يا جمال… والخناقة على بِلْيَة أصلها نيكل نيكل مش أي كلام.
الهيلاهوب، الحجلة، غير مباريات كرة القدم اللى صاحبها واقف بعربيته قدام المدرسة ، واللي يكسبّ ياخد تعريفة ونوجا .
أحنُّ لحيِّنا الجميل وكل ما يذكرني به
الفرن الإفرنجي لصاحبه بخيت وأخيه جابر.
أحنُّ لبقالة النيل لصاحباها عبد الرحيم وأخوه سمير الشوام اللذان نزحا إلى القاهرة.
وأحنُّ لسندوتشات البسطرمة والحلاوة الطحينية من محلهما ، حيث كنا نأخذ الفينو طازجًا من الفرن ويقوم عبد الرحيم بحشوهما وكان السندوتشان يتكلفان من ٣ إلى خمس قروش .
أحنُّ للعيش البلدي ، حيث كان عم سعد يأتي بالقفّة حتى باب الشقة ويطرق الباب، ثم يمضي لجيراننا يوزع عليهم القفف حتى تنتهي أمي من نقاوة ما تحتاجه ما بين عيش ملدن و مفقع و”ناشف”. وكانت تدفع خمسة قروش ثمنًا لعشرة أرغفة.
وفي الصيف، عند زيارة عائلة عمي لنا، كنا نشتري “ألف عيش” (والألف هنا تعني عشرين رغيفًا بلغة الطابونة
أشتاق لأيام عم عبد العليم صاحب المكتبة ، وكان عبد العليم أيضًا خطيب جامع الحي ، الذي لم يكن يستأمن أحدًا على مفاتيحه إلا لعم وليام كهربائي السيارات. كنا نفضّل مكتبته على مكتبة شهاب بالروضة أو مكتبة أبو هابيل لأنه كان “مغلواني”.
أحنُّ لعم يعقوب الإسكافي، حيث كنت أشتري من عنده خمس ملبسات “نادلر مشكل” بتعريفة. كان بشوشا دائمًا، لكن حين يكون مزاجه غير معتدل، كنت أقول: صباح الخير يا عم يعقوب ، فيرد متجهّمًا “أهو صباح وخلاص”.
أشتاق للباعة الجائلين وأصواتهم وعباراتهم المميزة بلحن لا يُنسى: “خضرة يا ملوخية”، “الفول الحراتي”، على السكين يابطيخ حمار وحلاوة ، الجوافة ، قصب نجع حمادي (حيث كانت اللبشة بخمسة أبيض أي خمسة تعريفة أو قرشان ونصف .
وكان هناك رجل يبيع خيشًا لمسح البلاط، وأغرب بائعين اثنين أتذكرهما لندرتهم ، بائع ثمار الجميز ومشتري زبل الحمام
ما زال صوت أم نبيل بائعة الجرائد يطنُّ في أذني وهي تصرخ: “الأهرام والأخباااار”، وكانت تنادي صديق العمر باسمه بصوت عالِ “يا ممدوووح”.
أشتاق لعم علي الترزي جارنا وصديقي .
أشتاق لعمال المطافئ الذين كانوا يأتون من وقت لآخر لتجربة حنفية المطافئ أمام المنزل والتأكد من أنها تعمل بكفاءة. ويأتي عمال البلدية لمعاينة البلاعات في الشوارع ، التي صُمّمت بطريقة تجعل مياه الأمطار تتجمع فيها، وكنا نغني ونحن نبلبط بأقدام حافية “يا نطرة… رخّي رخّي على قرعة بنت أختى ”.
واحشاني خالص عليا النعمة يا بلد
# وصفي هنرى
ڤيينا ١٩ مسرى ٦٢٦٦
٢٧ أغسطس ٢٠٢٥
صورة شهادة القبول ١٩٦١