السبت 12 يوليو 2025 02:36 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : قـــراءة تفسيرية لسورة التين 5

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}، كان الخطاب في قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} موجَّها للغائب (هـو)، ثم انتقل في قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} إلى المخاطب (أنت)، وهذا الانتقال بين الضمائر يُسمَّى في اللغة (التفاتًا) وهو مظهر بلاغي يلفت المتلقي إليه ليتدبر دلالات الخطاب، و{مَـا} اسم استفهام مبتدأ خبره ما بعده، وهو استفهام مجازي؛ لأنه واقع من الله، وكل استفهامات الله في القرآن مجازية؛ لأن حقيقة الاستفهام طلب الفهم أو طلب ما لا يعلمه السائل، وذلك محال على الله؛ فهو بكل شيء عليم؛ ومن ثَـمَّ فكل استفهام من الله مجاز دلالته تُفهَم من سياق الخطاب، ودلالة الاستفهام في قوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} هي الإنكار والتوبيخ، فالله ينكر على الإنسان تكذيبه ويوبِّخه عليه، والمرادُ بالإنسانِ هنا الكافرُ؛ لأن الله استثنى المؤمنين في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، و{يُكَذِّبُكَ} يجعلك مُكذِّبا، والمراد بـ{الدين} إما الإسلام استنادا إلى قوله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} أو البعث والجزاء استنادا إلى قوله تعالى: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ حيث يُبعَث كل إنسان فيُحاسَب ويُجَازَى بما قدَّم، والمعنى: أي شيء يدفعك أيها الكافر إلى التكذيب بالإسلام والبعث والجزاء بعد أن خلقناك في أحسن تقويم وأقمنا لك الأدلة على أن الإِسلام هو الدين الحق؟ فلا عذر لك في التكذيب، ويحتمل الاستفهام أنه موجَّه للنبي، و{ما} بمعنى (مَــنْ)، أي من ذا الذي يكذِّبك أيها الرسول الكريم بعبادة الله بعد أن ظهرت دلائل صدقك؟ فالعاقل يجب أن يصدِّقك ولا يُعرِض عنك؛ فخلْق الإنسان من نطفة وتقويمُه بشرا سويا وتدريجُه في مراتب النمو حتى اكتماله واستوائه ثـم ردُّه إلى أرذل العمر دليل واضح على قدرة الخالق على الحشر والنشر، فمن ينظر في حسن خَلْقه ثم يبقى مصرًّا على كفره فهو أجدر بالتوبيخ والإنكار لموقفه الجاحد للحق.
ــ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، كان الحديث في قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} موجَّها للمخاطب (أنت)، ثم حدث التفات فقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، وهذا السؤال استفهام مجازي دلالته الإقــرار لإثبات مضمونه، وكل استفهام خاص بالله بدأ بالنفي دلالته الإثبات والإقـرار، وقد ورد في القرآن أكثر من عشر مرات كقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، وهو يستوجب الإجابة بالحرف (بلى)؛ ولذا جاء في الحديث "من قــرأ منكم {والتين والزيتون}، ثم انتهى إلى {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين"، وتعبير {أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ورد في القرآن مرتين، وله معنيان: أحدهما أن يُراد به الحُكْم بمعنى العدل في القضاء، فالله أقضى القضاة إحقاقا للحق وعـدلا بين الخلْق ونفاذا للحُكم، ومن مظاهر قضائه أنه لا يجور ولا يظلم، وأنه يُقِيم القيامة فينصف المظلوم من ظالمه، وهذا المعنى يقويه قوله تعالى: {هُـوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} الوارد في القرآن ثلاث مرات، والمعنى الآخر أن يراد به الحِكْمة، أي هو أعلى الحكماء حكمةً في قَضائِهِ فلا إفراط عنده ولا تفريط، والمعنيان مقبولان ولا مانع من الجمع بينهما، فالله هو الحاكم الحكيم، لا رادَّ لقضائه ولا معقب لحُكْمه؛ إذ حُكْمه هو الحق العدل المنزَّه عن الخطأ والانحراف؛ لأنه صادر عن كمال علمه وحكمته، فهو أعـدل الحاكمين وأعلى الحكماء خَلْقا وصُنعا وقضاءً وتدبيرا؛ فيجب على كل عاقل أن يخلِص العبادة لله، وأن يتبع رسوله في كل ما جاء به من عند ربه.