الخميس 1 مايو 2025 09:14 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د،نهال أحمد يوسف تكتب : حكاية ”الرجل القش” في أرض الكنانة

د،نهال أحمد يوسف
د،نهال أحمد يوسف

(تأثير استهلاك المعلومات المشوهة على جودة الحياة والتنمية)

في قلب أرض الكنانة، حيث النيل يجري حاملاً معه عبق التاريخ وحكايات الأجداد، وبين صخب المدن وهمسات القرى، كانت تدور رحى الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ككل مكان يعيش تحولات وتحديات، كانت الآراء تتضارب، والأفكار تتلاقح، والنقاشات تحتدم حول مستقبل البلاد ومسيرتها. لكن في خضم هذا الحراك، بدأت تظهر شخصية غريبة، خفية لكنها مؤثرة، تُعرف بـ "الرجل القش" (مغالطة الرجل القش - Strawman Fallacy). لم يكن هذا الرجل كياناً حقيقياً من لحم ودم، بل كان تجسيداً لطريقة ملتوية في عرض الحجج، أسلوباً يعتمد على بناء صورة مشوهة وسهلة الهجوم لرأي الآخر، بدلاً من مواجهة الرأي الحقيقي بكل تعقيده.

تُعتبر مغالطة "الرجل القش" (Strawman Fallacy) من أخطر الأساليب الخادعة التي تُعيق النقاشات الموضوعية وتقوض المساعي نحو فهم حقيقي للآراء المختلفة. تكمن هذه المغالطة في قيام طرف ما في الحوار بصياغة نسخة مُبسطة أو مُحرفة أو حتى مُختلقة لحجة الطرف الآخر، ومن ثم توجيه سهام النقد والرفض إلى هذه النسخة المشوهة بدلاً من الانخراط الفعلي مع الحجة الأصلية بكل تعقيداتها ودقتها (8). والنتيجة؟ انتصار وهمي للمُغالِط، إذ إنه يهزم شبحاً صنعه بيده، تاركاً الحجة الحقيقية للخصم دون أي مواجهة حقيقية(7). إن تصور "الرجل القش" نفسه يحمل دلالة عميقة. فهو يمثل هدفاً ضعيفاً وسهل التدمير، تماماً كالدمية المصنوعة من القش التي لا حول لها ولا قوة. هذا التصوير البلاغي يُسلط الضوء على طبيعة المغالطة: فهي تسعى إلى اختزال حجة الخصم إلى أضعف صورها لتسهيل "هزيمتها"، متجنبة بذلك عناء التفكير النقدي والرد المنطقي على جوهر القضية. ورغم أن فكرة تحريف الحجج قديمة قدم الجدل الإنساني، إلا أن صياغة هذا التكتيك الخادع تحت مسمى "مغالطة الرجل القش" يعتبر تطوراً حديثاً نسبياً في حقل دراسة المنطق والمغالطات. ويُعتقد على نطاق واسع أن كتاب ستيوارت تشيس (1) "The Tyranny of Words" الصادر عام 1938، والذي يُعد عملاً مبكراً ومؤثراً ساهم في نشر وتبسيط مفاهيم علم الدلالة العام، قد لعب دورًا محوريًا في التعريف الرسمي بمغالطة "الرجل القش" وإبراز خطورتها في تشويه الحوارات وتقويض التفكير العقلاني. وبالإضافة إلى ذلك، عزز كتابه اللاحق "Guides to Straight Thinking" الصادر عام 1956 هذا الفهم(2). فمن خلال فهمنا لهذه الآلية الخادعة، نصبح أكثر قدرة على تمييزها في الخطابات المختلفة وتجنب الوقوع في براثنها، وبالتالي الارتقاء بمستوى نقاشاتنا نحو فهم أعمق وحلول أكثر فعالية.

لتجاوز الفهم السطحي لمغالطة "الرجل القش" وتأثيرها العميق على تصوراتنا وواقعنا الاجتماعي، يصبح من الضروري الغوص في أعماق نظرية التحليل النقدي للخطاب (CDA). يرى نورمان فيركلوف، أحد أبرز مؤسسي هذه النظرية، أن اللغة ليست مجرد وعاء محايد ننقل من خلاله المعلومات، بل هي قوة فاعلة تُشكل الواقع الاجتماعي وتُعيد تشكيله باستمرار. فالخطاب، بكل تجلياته بدءاً من الأخبار ووصولاً إلى أبسط تفاعلاتنا اللغوية اليومية، يحمل في طياته بصمات معقدة لعلاقات القوة المتأصلة في المجتمع والأيديولوجيات السائدة فيه (4, 3).وعلى هذا الأساس، يصبح إنتاج الرسائل واستهلاكها عملية مُحمَّلة بالدلالات والتأثيرات، ولا يمكن اعتبارها فعلاً بريئاً أو محايداً. ففي هذا السياق تحديداً، تتبدى مغالطة "الرجل القش" كأداة خطابية ماكرة، قد تُستخدم بوعي أو بدونه، للتلاعب بالمعاني وتوجيه فهم الجمهور نحو رؤية محددة تخدم غالباً مصالح فئة أو جهة نافذة. إن قدرتنا على فك شفرة هذه المغالطة وفهم آليات عملها تتعمق بشكل كبير عندما نربطها بكيفية استقبال الجمهور لهذه الرسائل وتحليلهم لها – وهو صلب اهتمام التحليل النقدي للخطاب (7, 8). فكلما امتلك الجمهور أدوات تحليلية ناقدة للغة المستخدمة والكامنة وراءها من أيديولوجيات، أصبح أقل عرضة للوقوع في فخ "الرجل القش" وتأثيراته المضللة.

في خضم التفاعلات المعقدة التي تشكل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مصر، يبرز نمطٌ مقلق من التضليل يتمثل في الاستخدام الممنهج لمغالطة "الرجل القش". هذه المغالطة المنطقية، التي تقوم على تحريف حجج الآخرين وتقديم نسخ مبتسرة أو مشوهة لها بغرض دحضها بسهولة، تتجلى بوضوح في سياق تداول الجمهور للأخبار والمعلومات، ولا سيما تلك التي تصنف ضمن فئة "الأخبار الزائفة" المنتشرة عبر مختلف المنصات. إن تفشي هذا الأسلوب الخطابي لا يقوض فقط أسس النقاش الرصين بين الأفراد، بل يمتد ليؤثر تأثيرًا بالغًا على وعيهم الجمعي وقدرتهم على تكوين رؤى مستنيرة حول القضايا المصيرية.

في المجال السياسي، يُلاحظ كيف تُختزل المواقف المعقدة إلى نماذج سطحية وهشة في تفاعلات الجمهور لتسهيل مهاجمتها. فعندما يُبدي أفرادٌ قلقهم إزاء مسار الإصلاحات الديمقراطية ويدعون إلى خطوات أكثر شمولية، يتم تصوير هذه المطالبات في نقاشات عامة معينة على أنها دعوات للفوضى وزعزعة الاستقرار الوطني. هذا الاختزال التبسيطي المشوه للخطاب المعارض (Oversimplified and Distorted Representation of Opposing Discourse) يتجاهل جوهر المطالبات بالإصلاح التدريجي ويُركز بدلاً من ذلك على صورة نمطية سلبية للمعارضة في أوساط المتلقين(4,2,1). وبالمثل، عندما يتم تداول سريع لموقف مصر السياسي الحازم تجاه القضايا الإقليمية الحساسة، كرفض تهجير الفلسطينيين وتأكيد جاهزية الجيش لحماية الحدود، يظهر "الرجل القش" ليقلل من هذا الدور ويشوّهه عمداً. تُبث أخبار زائفة أو تعليقات مغرضة تصور موقف مصر على أنه ضعف أو مجرد تصريحات كلامية جوفاء، متجاهلة الخطوات الدبلوماسية والجهود العملية المبذولة على أرض الواقع. هذا التشويه المنهجي لجوهر الدور الوطني (5,3) (systematic Misrepresentation) يؤدي إلى إضعاف الثقة في القيادة الوطنية وتجاهل الحقائق الموضوعية.

في سياق الأخبار الاجتماعية، كما رأينا في التداول الواسع حول قضية طفل دمنهور المؤسفة، يحاول "الرجل القش" حرف النقاش عن مساره الحقيقي واستغلال حساسية القضية لتأليب الرأي العام في اتجاهات أخرى. مثل ترويج أخبار زائفة تسعى لإثارة الفتن الطائفية أو ربط أسرة الطفل بجماعات معينة بهدف تسييس القضية واستغلال التعاطف الإنساني النبيل. هذا التحويل الاستراتيجي لمسار الخطاب العاطفي (4)(Strategic Diversion of Emotional Discourse)يُعيق الوصول إلى الحقيقة ويُشتت الجهود نحو تحقيق العدالة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، يتجلى استخدام مغالطة "الرجل القش" في محاولات تشويه النجاحات أو تبرير الإخفاقات في تفاعلات الجمهور. ففي سياق الجدل الدائر حول بعض الشركات الناشئة، كما في حالة شركة "بلبن"، سعت بعض الحملات في تداولات الأفراد إلى اختزال النجاح الاقتصادي إلى مجرد تهم بالفساد أو غسيل الأموال، متجاهلة التحليلات الموضوعية التي قد تفسر النمو السريع بناءً على آليات السوق والميزات التنافسية(7)، وهونوع من أنواع التضخيم السلبي والتعميم المغلوط (Negative Amplification and Fallacious Generalization) وبالمثل، عندما تُثار انتقادات موضوعية للسياسات الاقتصادية من قبل خبراء أو مواطنين متضررين، يتم تصوير هذه الانتقادات في نقاشات الأفراد على أنها مؤامرات تستهدف تقويض الاقتصاد الوطني، مما يُعيق أي تقييم نقدي بناء وضروري لتحسين الأداء الاقتصادي، فهو تأطير النقد البناء كعمل تخريبي للاقتصاد الوطني (Framing Constructive Criticism as an Act of Sabotage Against the National Economy).

في سياق تحليلنا لتفشي مغالطة "الرجل القش" في الخطاب المصري المعاصر، تتبدى بجلاء الأهمية الحاسمة لنظرية التحليل النقدي للخطاب .(CDA) هذه النظرية لا تنظر إلى اللغة باعتبارها مجرد وسيلة نقل حيادية للمعلومات، بل تؤكد على تجذرها العميق في السياقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، وأنها تحمل في ثناياها شبكات معقدة من علاقات القوة والأيديولوجيات التي تشكل بنية المجتمع (4). وعليه، فإن الطريقة التي نتلقى بها المعلومات ونستهلكها ليست عملية منفعلة وسطحية، بل هي تفاعل نشط يتشكل بفعل خلفياتنا المعرفية الموروثة، ومعتقداتنا الراسخة، وولاءاتنا الاجتماعية المتنوعة (8). وعندما يتم تداول مغالطة "الرجل القش" تحديدًا في سياق الأخبار الزائفة التي تغلف الأوضاع في مصر، فإن الكيفية التي يستقبل بها الأفراد هذه المعلومات المشوهة تلعب دوراً محورياً في تحديد مدى تأثيرها وقدرتها على التضليل. فإذا افتقر الأفراد إلى الأدوات اللازمة للتفكير النقدي المستقل، أو كانوا أسرى للتحيزات التأكيدية التي تدفعهم للبحث عن أي معلومة تدعم قناعاتهم المسبقة (5)، فإنهم يصبحون أرضاً خصبة لتصديق النسخة المشوهة والضعيفة للحجة التي يقدمها "الرجل القش". على سبيل المثال العملي، إذا كان لدى فرد ما بالفعل تصور سلبي تجاه فئة معينة تنتقد أداء الحكومة، فمن المرجح أن يكون أكثر تقبلاً وتصديقاً لخبر زائف يصور هذه الفئة على أنها "أعداء للدولة" دون بذل أي جهد للتحقق من مصداقية الأدلة أو فهم الحجة الأصلية في سياقها الصحيح، والعكس.

هذا الاستهلاك غير النقدي والواعي للمعلومات المشوهة، كما رأينا في تبسيط المطالبات بالإصلاح السياسي إلى دعوات للفوضى، أو في تصوير موقف الدولة الثابت تجاه القضايا الإقليمية كضعف، أو حتى في تحويل التعاطف الإنساني في القضايا الاجتماعية إلى ساحة للفتنة، أو في اختزال نجاح اقتصادي محتمل إلى تهم باطلة، أو في شيطنة أي نقد اقتصادي بناء، لا يقتصر أثره على تشويش الحقائق في أذهاننا. بل إنه يتعدى ذلك ليؤثر بشكل مباشر على جودة حياتنا اليومية، حيث تتآكل الثقة بيننا وبين مختلف الأطراف، وتزداد حدة الاستقطاب الاجتماعي الذي يجعل الحوار البناء مستحيلاً، ويقودنا في النهاية إلى اتخاذ قرارات شخصية وعامة غير مستنيرة بناءً على تصورات خاطئة. وعلى صعيد تقدمنا كمجتمع، فإن "الرجل القش" هذا يعرقل قدرتنا على مواجهة تحدياتنا بشكل فعال، إذ يمنعنا من إجراء حوار حقيقي وصريح حول المشكلات واقتراح حلول مبتكرة لها. كما أنه يؤخر مسيرة الإصلاح في شتى المجالات، لأنه يصور أي محاولة للتغيير أو النقد البناء على أنها عمل تخريبي يستهدف الاستقرار. وفي نهاية المطاف، فإن الاعتماد على معلومات مشوهة في رسم سياساتنا واتخاذ قراراتنا كمجتمع يؤدي إلى تبديد جهودنا ومواردنا، ويؤخر تقدمنا نحو مجتمع أكثر عدالة وشفافية ورخاءً. لهذا، فإن امتلاك الوعي النقدي وتنمية مهارات التحقق من المعلومات ليسا مجرد رفاهية فكرية، بل هما أدوات أساسية لكل مواطن مصري يسعى للمساهمة بفاعلية في بناء مستقبل أفضل لنفسه ولوطنه.

المراجع:

1. Chase, S. (1938). The Tyranny of Words. Harcourt, Brace and Company.

2. Chase, S. (1956). Guides to Straight Thinking, With 13 Common Fallacies. Harper.

3. Fairclough, N. (1995). Media discourse. Edward Arnold.

4. Fairclough, N. (2003). Analysing discourse: Textual analysis for social research. Routledge.

5. Iyengar, S. (1991). Is anyone responsible? How television frames political issues. University of Chicago Press.

6. Tindale, C. W. (2007). Fallacies and argument appraisal. Cambridge University Press.

7. van Dijk, T. A. (2001). Discourse, ideology and context. Folio: Papers in Linguistics, 13, 11–40.

8. Walton, D. N., Reed, C., & Macagno, F. (2008). Argumentation schemes. Cambridge University Press.

9. Wodak, R., & Meyer, M. (Eds.). (2009). Methods for critical discourse analysis. Sage.

10. Zaller, J. R. (1992). The nature and origins of mass opinion. Cambridge University Press.