الخميس 8 مايو 2025 06:01 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : ”ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ”

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

في أروقة البحث الأكاديمي، حيث اعتدنا على تحليل تعقيدات المجتمعات بمنظور موضوعي، تبرز لحظات تستدعي وقفة تأمل عميقة يغلفها الإحساس الإنساني. الأحداث المأساوية الأخيرة التي طالت إحدى طالبات كلية العلوم بجامعة الزقازيق تهز الوجدان بعمق، وتثير شعوراً جماعياً بالحزن والدهشة. خالص التعازي وصادق المواساة لأسرة الفقيدة وأصدقائها في هذا الفقد الجلل.

وبعيداً عن فاجعة اللحظة، فإن هذه الحوادث، جنباً إلى جنب مع اتجاه مقلق نحو جرائم تتسم بعدم رحمة متزايد في المجتمع المصري، تدعونا إلى استكشاف سؤال محير: كيف يتطور لدى الأفراد، سواء كانوا متورطين بشكل مباشر أو في محيط الجريمة أو الحادث، مثل هذا التجمد العاطفي واللامبالاة؟ لماذا يبدو أن فتوراً عاطفياً زاحفاً يتسلل إلى نسيجنا المجتمعي، وكيف يمكننا فهم هذه الظاهرة من خلال عدسة العلوم الاجتماعية؟

تقدم نظرية التفكك الاجتماعي إطاراً نظرياً ذا قيمة لفهم هذه الظاهرة. وعلى الرغم من تطبيقها تقليدياً لدراسة معدلات الجريمة في المناطق الحضرية الفقيرة، إلا أن مبادئها الأساسية قابلة للتكيف لتحليل تآكل التماسك الاجتماعي وضوابط السلوك غير الرسمية داخل المجتمع الأوسع. تفترض هذه النظرية أنه عندما تشهد المجتمعات تفككاً في الروابط الاجتماعية، وضعفاً في الكفاءة الجماعية (قدرة أفراد المجتمع على الثقة والتعاون المتبادل)، ونقصاً في القيم المشتركة، فإنها تصبح أقل قدرة على تنظيم سلوك أفرادها.

في سياق المجتمع المصري المعاصر، قد تساهم عدة عوامل في هذا الضعف في النسيج الاجتماعي. يمكن للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة، والتوسع الحضري المتزايد، والتأثير المنتشر لوسائل التواصل الاجتماعي أن تعطل الهياكل المجتمعية التقليدية وتخفف من المعايير المشتركة. كما أن التعرض المستمر للعنف والسلبية عبر مختلف القنوات الإعلامية قد يؤدي إلى حالة من التبلد الحسّي، وهو تخدر نفسي يجعل من الصعب التعاطف مع معاناة الآخرين.

لنأخذ في الاعتبار قضية طالبة كلية العلوم جامعة الزقازيق. فبينما التفاصيل مؤلمة للغاية،وربما ليست مؤكدة بعد في سيناريو واضح، لأنها لازالت تحت قيد التحقيقات، إنما الخطاب العام المحيط بمثل هذه الأحداث يكشف أحياناً عن انفصال مثير للقلق. فبدلاً من إدانة موحدة أو دعم للضحية وأسرتها،أو حتى التوقف عند حد التعاطف لحين إصدار بيان رسمي بتفاصيل الحادث، ولكن نجد العكس. فا نلاحظ ردود فعل مجزأة، وتبادلاً للاتهامات، أو حتى فضولاً مرضياً بالتفاصيل، وربما روايات متعددة تبدو متعاطفة ولكنها مندفعة وغير منظمة، فا تصبح مُدينة للضحية. يشير هذا التفتيت إلى ضعف محتمل في "البوصلة الأخلاقية" الجماعية، حيث يتضاءل الشعور المشترك بالغضب والتعاطف.

وبالمثل، يمكن لجرائم أخرى حديثة، غالباً ما يتم تضخيمها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أن توضح هذه النقطة. قد نشهد حالات يفشل فيها المارة في التدخل، أو حيث تفتقر التعليقات عبر الإنترنت إلى التعاطف، وتركز بدلاً من ذلك على الإثارة أو الحكم. هذا لا يعني أن الجميع يتفاعلون بهذه الطريقة، لكن التزايد الملحوظ لمثل هذه القسوة يمثل اتجاهاً مقلقاً.

تشير نظرية التفكك الاجتماعي إلى أنه عندما تضعف الضوابط غير الرسمية، قد يشعر الأفراد بقيود اجتماعية أقل ويميلون بشكل أكبر نحو المصلحة الذاتية أو حتى العدوان. يمكن أن يؤدي غياب الروابط المجتمعية القوية إلى تراجع في الرغبة في مساعدة الآخرين أو إدانة السلوك الضار بشكل جماعي. هذا ليس تبريراً للأفعال الإجرامية، بل هو محاولة لفهم السياق المجتمعي الأوسع الذي قد يساهم في مناخ يمكن أن تتجذر فيه مثل هذه الأفعال واللامبالاة المصاحبة لها.

علاوة على ذلك، فإن مفهوم اللا معيارية (Anomie)، كما وصفه عالم الاجتماع إميل دوركايم، قد يكون ذا صلة أيضاً. تشير اللا معيارية إلى حالة من فقدان المعايير حيث يشعر الأفراد بالانفصال عن المبادئ التوجيهية للمجتمع. في أوقات التغير الاجتماعي السريع، قد تصبح المعايير التقليدية أقل ملاءمة، وقد لا تكون المعايير الجديدة قد ترسخت بعد، مما يؤدي إلى شعور بالارتباك وضعف في التنظيم الاجتماعي. يمكن أن يتجلى ذلك في تراجع التعاطف وزيادة السلوك الأناني.

تتطلب معالجة هذا الفتور المتزايد في التعاطف مقاربة متعددة الأوجه. يعد تعزيز الروابط المجتمعية من خلال المبادرات المحلية داخل كل أسرة، وتعزيز الوعي الإعلامي والاستهلاك المسؤول، وتنمية ثقافة التعاطف والمشاركة المدنية خطوات حاسمة. تلعب المؤسسات التعليمية، دوراً حيوياً في تنمية الوعي الأخلاقي والمسؤولية الاجتماعية بين الطلاب.

إن الفقد المأساوي لحياة شابة من كلية العلوم يمثل تذكيراً صارخاً بالتكلفة الإنسانية لنسيج اجتماعي قد يكون آخذاً في التحلل. من خلال فهم القوى الاجتماعية المؤثرة، يمكننا البدء في معالجة الأسباب الجذرية لهذا الارتفاع الظاهر في القسوة والعمل نحو إعادة بناء مجتمع يقوم على التعاطف والرحمة والشعور القوي بالمسؤولية الجماعية. يجب ألا تستحضر ذكرى الطالبة الشابة الحزن فحسب، بل يجب أن تلهمنا أيضاً للعمل بنشاط على تنمية مجتمع أكثر إنسانية وتواصلاُ.

وفي هذا السياق، يصبح التذكير القرآني "ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ" ذا دلالة عميقة. فالفتور العاطفي واللامبالاة اللذان نشهدهما قد ينبعان جزئياً من دوافع الرياء الاجتماعي، حيث يسعى البعض للظهور بمظهر معين أو تحقيق مكاسب شخصية زائفة على حساب الشعور الحقيقي بالآخرين ومعاناتهم. إن تجاوز هذه الحالة يتطلب منا تجاوز التظاهر والعودة إلى الصدق الداخلي والتعاطف الحقيقي، وبناء مجتمع لا يقوم على الاستعراض بل على التراحم والمسؤولية المشتركة.