شبراوى خاطر يكتب : ٢١٧٠ عاماً تتولى أمر الثقافة المصرية


عندما تابعت تشكيل المجلس الأعلى للثقافة الذي أعلن عنه رئيس مجلس الوزراء مؤخراً، لا أخفيكم سراً بأنني سارعت أو لنقل تسرّعت بالتعليق على قائمة الأعضاء بشكل سلبي للغاية وقلت أن هذا مجلس وصاية على الثقافة، وسوف يتّبع أسلوب (الأباء في الأعمال الدرامية):
"أنا ابوك واكبر منك وأعرف مصلحتك أكتر منك!!!"
وأعتقدت بأن هؤلاء الأعضاء المختارين بعناية وعن إدراك "قصدي" هم من من تغيّر المشهد الثقافي الذي نعترض عليه الآن تحت أنظارهم، وصمتهم، إن لم أقل تحت إشرافهم، وكأنهم آباء مبتورون بلا نسل يقتبس من نورهم شيئاً.
ولا بأس إن كان "قصد ونية" حكومة "المدبوليزم" أن تطبق نصيحة الكاتب الأمريكي "تود هنري" في كتابه الرائع "مُت فارغاً" والذي بذل فيه قصارى جهده لتحفيز البشر بأن يفرّغوا ما لديهم من أفكار وطاقات كامنة في مجتمعاتهم وتحويلها إلى شيء ملموس قبل فوات الأوان.
وأجمل ما قاله تود هنري في كتابه:
"لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك،
اختر دائماً أن تموت فارغاً".
فإذا كان د. مدبولي (٥٩ عاماً) أطال الله عمره، كان يقصد الاستفادة من هذه النصيحة، فلا بأس، وله مني عظيم التقدير لرؤيته الثاقبة.
كما أنني لا ادري ما هو الدور المنوط بمجلس هذه المصطبة من اصحاب القامات والياقات البيضاء؟ كيف سيعملون معاً؟، ومن هو الذي سيقود هذا المجلس؟، وما هي القضايا المطروحة امامهم؟، وكم مرة سيجتمعون معاً؟، وهل سيرصد لهم أجور ومكافاءات وحوافز وبدلات؟ وهل سيكون لهم سلطات تنفيذية محددة، أم مجرد هيئة استشارية؟، أو تعمل بشكل يشبه اجتماعات "الحوار الوطني"؟ وبأي طريقة سيتم إعلامنا بنتائج أعمالهم، إلخ..
وقد قلت؛ أنا لا اعترض على اسماء بعينها فمعظمهم أكن لهم كل الاحترام والتقدير، وبعضهم تعلمت على يديه، ولكن ليس بهذه الطريقة تُعالج الأمور أو الرؤى بعيدة المدى. وكان اعتراضي أن ملف الثقافة أصبح يسند فقط لعشرات من الخبراء متوسط اعمارهم تخطت الخمس والسبعون عاماً - وأؤكد بأن هذا ليس سبب اعتراضي- ولا أن معظم اعضاء هذا المجلس الموقر، قد تم تنشئة معظمهم في طفولتهم وصباهم في آواخر الثلاثينات والأربيعينيات إلى أوائل الستينيات من القرن الماضي، وعاصروا العهد الملكي وعلم البلاد الاخضر ذو الأهلة الثلاثة، والتحول من المملكة المصرية، إلى جمهورية مصر العربية، ثم الجمهورية العربية المتحدة ثم العودة لجمهورية مصر العربية ويتبع ذلك تغيّر علم البلاد، مرة بالنجوم الثلاثة،ومرة بصقر قريش ومرة بالنسر. ولقد عاصروا الاحتلال الإنجليزي وشهدوا الاحتفال بجلاؤه، وعاصروا حرب ال ٤٨، والعدوان الثلاثي والنكسة والاستنزاف وحرب اكتوبر، عاصروا فاروق ونجيب وعبد الناصر السادات ومبارك وما تلاهم.
وقد تكمن الميزة في اختيارهم بالإسم والصفة هو تنوع خبراتهم، فمنهم أساتذة الجامعة ومنهم من تعلمنا على أيديهم، ومنهم من اشتغل بالعلم والآداب والفنون والموسيقى والطب والهندسة والمعمار والعلوم والإعلام والسياسة، وكثير منهم رجال والقليل من السيدات، ومعظمهم ممن عاشوا في زمن لمبة الجاز والتليفزيون الابيض والأسود، وارتدوا القمصان الملونة والبنطلونات الشارلستون، والميكروجيب والميني جيب، والشعر الهايش الكنيش، بأختصار، عايشوا كل التجارب الممكنة والتحولات العظيمة والمدهشة الغريبة محلياً وعالمياً.
هؤلاء الخبراء من مجلس الحكماء عاصروا كل لحظات الحلو والمر في وطننا ومنهم من حارب وعايش الهزيمة وحقق النصر، وبالتأكيد سوف يكون لهم دور كبير في تنظير الوضع الثقافي والاخلاقي والاجتماعي. وقد يقف الأمر عند حد التنظير والانتقاد والتعبير عن الحنق لما وصلنا اليه.
والتحدي الأعظم أن هؤلاء السادة والسيدات، مطلوب منهم التواصل مع جيل في عمر أحفادهم، يتحدث لغة مختلفة، وله وسائل اتصال مختلفة وتكنولوجيا مختلفة، جيل لا يعلم أصلاً من هؤلاء الأوصياء علي ثقافتهم المهدورة. جيل لم يتعلم آبائهم كيف يغرسوا فيهم اقل مبادئ القيم والاخلاق والتطلع الى المستقبل، إلا ما رحم ربى، جيل يعشق التمرد، ولا يفهم ماذا يريد هؤلاء الخبراء المحنكون. ولا يدركون لماذا هم مختلفون عنهم.
ومما زاد من إثارة الأمر، أن دفعت التعليقات على اعمار أعضاء المجلس بعض اعضاء مجلس النواب ليشنوا تصريحات مدافعة عن ما أثير عن أعمار أعضاء هذا المجلس. فأكدت النائبة "ضحى عاصي"، عضو مجلس النواب، بأن التركيز على أعمار أعضاء المجلس لا يُعد معيارًا منطقيًا أو مقبولًا لتقييم أدائهم، بل إن القيمة الحقيقية لهؤلاء الأعضاء تنبع من إنجازاتهم ومكانتهم الراسخة في المشهد الثقافي المصري، وهو ما يُبرر وجودهم ضمن تشكيل المجلس وعن امتلاكهم لرؤية ثقافية رفيعة ومهنية واضحة، ما يعكس خبراتهم الطويلة ومساهماتهم الملموسة في المجال الثقافي. وهذا لا خلاف عليه
كما أكدت النائبة "هند رشاد"، أمين سر لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب، أن الجدل الدائر حول المجلس الأعلى للثقافة لا يستند إلى أسس موضوعية
وأن اللجنة تعتمد على استراتيجية واضحة المعالم يتم تطبيقها بشكل منهجي، مشيرة إلى أن أعضاء المجلس الأعلى للثقافة ينتمون إلى جيل متميز من زمن واحد، يتمتع بخبرات كبيرة يجب الاستفادة منها طالما هم في ذروة عطائهم. وهنا يكمن تعليقي، بأنه لا يكفي أن يمثلوا جيل واحد ليتحكم باستراتيجة الثقافة ولا ان يحتكم إليه الأجيال التابعة لهم، حيث ان عميد هذا المجلس الاستاذ الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عمره تسعون عاما من مواليد عام ١٩٣٥، وأن أصغر عضو الدكتور عطية الطنطاوي عمره تسعة وخمسون عاما من مواليد ١٩٦٦، ولكن كنت اتوقع ان هذا المجلس كان ولابد أن يشمل بعض الاعضاء الذين يعيشون الآن من أجل المستقبل، أو كان يجب أن يُنظر الى الأمر نظرة مستقبلية بعض الشئ، وأن يشمل بعض من الأجيال التي سوف تقود البلاد بعد عشرة او عشرون او ثلاثون عاماً من الآن. هذا لأن دور الشباب يُعد محوريًا في تنفيذ هذه الاستراتيجية الثقافية في المستقبل، وذلك لما يمتلكونه من اطلاع واسع يمنح المجتمع منظورًا مختلفًا ومواكبًا للتطورات،
نحن أمام مجلس مجموع أعمار أعضاءه تخطى ال ٢١٧٠ عاماً بمتوسط اعمار تجاوز ال ٧٤ عاماً، مما يجعل الأمر عسيراً لتبادل الخبرات مع شعب متنوع وكما تشير البيانات الرسمية انه من أكثر الشعوب شبابا في العالم.
وفي هذا السياق اتذكر رباعية عمنا صلاح جاهين التي تقول وقد يكون على لسان بعض الأعضاء:
أنا شاب لكن عمري ألف عام
وحيد لكن بين ضلوعي زحام
خايف و لكن خوفي مني أنا
أخرس و لكن قلبي مليان كلام
وإن كان لي حظ أو حق الاقتراح، فربما أقترح بأن كل عضو ممن تم إختيارهم، يحق له إختيار عضو مساعد له ممن لا تتجاوز اعمارهم الأربعون عاماً، حتى ولو كان في المرحلة الثانوية، لأن هؤلاء هم حملة المشاعل الحقيقين، وهم ورثة العلماء والخبراء والمفكرون المثقفون. وهم الوعاء العقلي الذي يجب أن يُصبّ فيه خبرات وتوصيات جيل العظماء المختار.
ولا أريد أن أثير مشاعر سلبية وأقول، أننا وصلنا إلى حالة ثقافية صارت ازمة هوية مع وجود كل تلك القامات الرفيعة وفي ظل مراقبتهم للتغير الثقافي والأخلاقي الذي نعيشه الآن، لذا ينبغي أن نفكر بطريقة جديدة، ونضع استراتيجية فعالة، وإن توقف الأمر على مجرد تشكيل مجالس، والمجالس تشكل لجان عامة واللجان العامة تشكل لجان فرعية، ونجلس ونجتمع ونناقش ونتفق ونختلف حتى يتبخر نصف هذا المجلس إما بالوفاة (أطال الله في أعمارهم) أو بالملل والفتور والإحباط واليأس، عندئذ ياريتك يا ابو زيد ما غزيت.