د .نهال أحمد يوسف تكتب : رغيف الخبز أم الثقافة ؟


في زمنٍ تئن فيه البطون، وتتآكل فيه جيوب البسطاء، تطفو على السطح واحدة من أقدم وأعقد الجدليات الفكرية: أيّهما أولى في مجتمعٍ يصارع من أجل البقاء، رغيف الخبز الذي يسدّ الرمق، أم الثقافة التي تسمو بالروح وتُثري العقل؟ للوهلة الأولى، تبدو الإجابة بديهية مثل ضوء الشمس في كبد السماء؛ فالبقاء غريزة، والخبز هو وقود هذه الغريزة. ولكن، هل هذه هي الحقيقة كاملة؟ أم أن هناك وجهاً آخر للحكاية، يرى في ربع الرغيف المغمّس بماء الوعي، قيمةً تفوق رغيفاً كاملاً خالياً من الروح؟
فالرؤية السائدة في مجتمعاتنا، خاصةً في أوقات الشدة الاقتصادية، هي أن كلّ جهدٍ ومالٍ يجب أن يُوجّه نحو تلبية الحاجات الأساسية. تُصبح الميزانيات المخصصة للثقافة، والفنون، والتعليم غير المباشر، عبئاً ثقيلاً، ترفاً لا يليق بمقام الأزمة. وكأنّنا نُقِرّ بأنّ الإنسان مجرد كائن بيولوجي، يأكل ويشرب لينمو جسده، دون أن نُدرك أنّه كائن مركب، لا يكتمل وجوده إلا بنمو روحه وعقله. إنّ اختزال الإنسان في بطنه هو جريمةٌ في حقّ وجوده، ودفعٌ له نحو حالةٍ من الشحّ الروحي والخواء الفكري. في هذا السياق، يتحوّل رغيف الخبز من وسيلةٍ للحياة إلى غايةٍ في حد ذاتها، يُصبح مركز الوجود، وتُنسج حوله كلّ الطموحات.
ولكن، ماذا لو كان هذا الرغيف الكثيف، الذي يُشغل كل تفكيرنا، هو في حقيقته "ربع رغيف"؟ نعم، هو يكفي للبقاء الجسدي، لكنه لا يُشبِع جوع العقل، ولا يروي عطش الروح. إنه يمنحنا القدرة على الاستمرار، ولكنه لا يمنحنا القدرة على الإبداع، أو الابتكار، أو حتى التساؤل عن سبب هذه الأزمة وكيفية الخروج منها. في مجتمعٍ يتهافت أفراده على رغيف الخبز وحده، دون الاهتمام بتنمية وعيهم الثقافي، تضيع القدرة على النقد والتحليل. يسيطر الجهل، وتُصبح الأفكار المُسبقة حقائق مطلقة. يصبح الإنسان سهل الانقياد، يُلقي باللائمة على قدره أو على المؤامرات الخارجية، ويستسلم للواقع دون مقاومة فكرية. هذا هو بالضبط "ربع الرغيف" الذي نأكله، رغيفٌ لا يمدّنا بالطاقة اللازمة لمواجهة تحديات المستقبل، وإنما يُبقينا أسرى للحاضر البائس.
على النقيض تماماً، تقف الثقافة كقوةٍ دافعةٍ للارتقاء، ليست مجرد لوحةٍ جميلة أو قصيدةٍ عذبة، هي في جوهرها الوعي الجمعي، هي الذوق العام، هي القدرة على التمييز بين الغث والسمين، بين الحقيقة والزيف. إنها تُمكِّن الإنسان من تحويل ربع الرغيف إلى تجربةٍ إنسانيةٍ كاملة. كيف؟ الثقافة تمنحنا الأدوات الفكرية لمواجهة الفقر ليس باليأس، وإنما بالإبداع. تُعلّمنا كيف نصنع من القليل الكثير، كيف نُحوّل الألم إلى فن، وكيف نُحوّل التحديات إلى فرص. إنّ المجتمع الذي يُدرك قيمة الثقافة، حتى في أحلك الظروف، هو مجتمعٌ يرفض أن يُختزل في احتياجاته المادية. هو مجتمعٌ يُدرك أنّ الفقر الحقيقي هو فقر الفكر، وأنّ المجاعة الروحية أخطر وأدوم من المجاعة المادية.
الثقافة هي التي تُثري اللغة، وتُنمّي الحس الجمالي، وتُعمّق الانتماء. عندما يقرأ طفلٌ قصةً تفتح آفاق خياله، أو عندما يستمع شابٌ إلى مقطوعةٍ موسيقيةٍ تُلامس مشاعره، أو عندما يشاهد فردٌ مسرحيةً تُثير في نفسه أسئلةً وجودية، فإنّه يتلقّى "رغيفاً" من نوعٍ آخر. إنه رغيفٌ يُغذّي وعيه، ويُثري شخصيته، ويُشكّل ذوقه. وهذا "الرغيف" الثقافي، وإن بدا غير ضروري في أوقات الأزمات، هو الذي يمنحنا القدرة على الحلم، على التخطيط، على التغيير. هو الذي يُحوّلنا من مجرد مستهلكين للخبز إلى صانعين للحضارة.
إنّ الخيار ليس بين رغيفٍ فارغ وبطنٍ جائع. الخيار الحقيقي هو بين رغيفٍ يُشبِع الجسد فقط، ورغيفٍ آخر يُشبِع الجسد والروح معاً. إنّ الفكرة ليست في أن نُهمل الأزمات الاقتصادية، وإنما هي أن نُدرك أنّ حلّها لا يكمن في الاقتصاد وحده. إنّ أيّ حلولٍ اقتصاديةٍ لا تترافق مع نهضةٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ مصيرها الفشل. لأنّها قد تُحسّن من مستوى المعيشة، لكنها لن تُغيّر من العقلية التي أفرزت الأزمة في المقام الأول.
في نهاية المطاف، الخبز والثقافة ليسا نقيضين، بل هما وجهان لعملة واحدة. الخبز يضمن لنا البقاء، والثقافة تضمن لنا أن يكون لهذا البقاء معنىً وقيمة. إنّ مجتمعنا في هذه المرحلة الصعبة يحتاج إلى أن يُعيد تعريف أولوياته. إنّه يحتاج إلى أن يُدرك أنّ الاستثمار في الوعي، في الفن، في الأدب، وفي الذوق العام، هو استثمارٌ في المستقبل. هو الذي سيضمن لنا أن يكون "ربع رغيفنا" اليوم، كافياً لبناء مجتمعٍ مُنتجٍ ومُبدعٍ في الغد، مجتمعٌ لا يرضى بالبقاء على قيد الحياة فقط، وإنما يسعى إلى عيش حياةٍ كريمةٍ وحقيقية.