الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 11:24 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

وصفى هنرى يكتب من فيينا : معا للأبد

الكاتب الكبير وصفى هنرى
الكاتب الكبير وصفى هنرى

في صباح هادئ من أيام سبتمبر الأسبوع الماضي ، وفي جو خريفي رائع في مدينة الأنس ، كنت أمشي في الشارع الذي يقع فيه منزلي ، حين لمحتهما من بعيد ، رجل وزوجته يجلسان على مقعد خشبي بجانب الرصيف بملابسهما البسيطة الأنيقة ، وكانت الشمس تتسلل بين الأشجار ، تلقي بظلالها على وجهيهما ، ويداهما الرقيقتان متشابكتان بلا انقطاع، كأنهما تعلنان للعالم كله بصمت “معًا إلى الأبد” .
بادرتهما بالتحية و بابتسامة خجولة ، وسألتهما بأدب إذا كانا من جيراني فى الشارع و عن عمرهما ومدة معرفتهما ببعضهما البعض ، ابتسمت الزوجة برقة ، وأجاب الرجل بصوت هادئ ودافئ “أنا هربرت، وعمري ٨٨ عامًا ، ثم أردفت السيدة “وأنا هرمينا، وعمري ٨٥سنة … قال هربرت إنهما متزوجان منذ واحد وستين عامًا ، لكنهما يعرفان بعضهما منذ شبابهما المبكر ، ويعيشان حياتهما معًا في كل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة ، شعرت في تلك اللحظة أنني أمام لوحة حية للوفاء والحب الذي لا يعرف الزمن.
طلبت أن ألتقط لهما صورة تجمعهما ، وقد وافقا برقة …أثناء تجهيز الهاتف لالتقاط الصورة ، لاحظت كيف تتحرك أصابعهما معًا في انسجام ، وكيف تنظر الزوجة إلى زوجها بعينين مليئتين بالحب والطمأنينة ، وكيف يجيب هو بابتسامة صغيرة وهادئة تكاد تكون همسا ، كما لو أن كل شيء حولهما مجرد خلفية لصمتهما الجميل ، كان صوت خطوات الناس في الشارع خفيفًا بالنسبة لهما ، وصوت الطيور كأنه موسيقى ترافق مشهد حياتهما الطويلة الهادئة .
تخيلت صباحاتهما معًا ، وهما يشربا ن القهوة في شرفة منزلهما المطل على الأشجار التي تملأ المكان ، يتبادلان الحديث بهدوء، أو ربما يمشيان في حدائق حينا الجميل ، يداهما متشابكتان دائما كما هي الآن ، يضحكان أحيانًا من ذكريات قديمة ، ويصمتان أحيانًا لتأمل الطبيعة حولهما. وربما كانت هناك أيام صعبة، مرض أو قلق ، لكن كلما مرت الأيام ، كانا يتشابكان أكثر، ويجدان في هدوء بعضهما القوة للتغلب عليها .
حتى المقابر القريبة من منزلنا، والتي يمر بها بعض الناس كأماكن للحزن، يمكن أن أتصور أنهما يمران فيها كما يمران بحديقة جميلة ، بين الأشجار والزهور ، يستنشقان الهواء النقي ويجدان في السكون عزاءً للروح . وربما كانا يحتفلان بمناسبات صغيرة مثل عيد ميلاد أو ذكرى زواج بهدوء ، بضحكة خفيفة ، بكلمة حانية ، وابتسامة صامتة تحمل سنوات من الفهم والوفاء .
كان كل شيء في حركاتهما وابتساماتهما يروي قصة صامتة عن حب حقيقي ، ظل المشهد محفورًا في مخيلتي ، يدان متشابكتان طوال الوقت ، نظرات متبادلة، ابتسامة خفيفة ، كل تفصيلة صغيرة تعكس أكثر من ستة عقود من الحياة المشتركة ، شعرت وأنا أبتعد بعد التقاط الصورة أنني لم أحمل مجرد صورة ، بل لحظة إنسانية نادرة ، درس عن الحب الذي يصمد أمام الزمن، عن السكينة التي تأتي من الوفاء الحقيقي، وعن جمال الحياة حين تشاركها مع من تحب ، وهدوء يملأ القلب.
وفي تلك اللحظة ، بدا لي وكأن الزمن توقف للحظة واحدة ، وكأن مدينة ڤيينا كلها أُختزلت في يدي هربرت وهرمينا المتشابكتين ، في ابتسامتهما الصغيرة ، وفي سلامهما الداخلي الذي يهمس لكل من يراه أن الحب الحقيقي ليس كلمات تُقال ، بل حياة تُعاش ، وهواءً نقيًا يُملأ به القلب روحًا ودفئًا لا ينتهي.
ايه اللى فاضل عالجنة

وصفى هنرى
٦ توت ٦٢٦٧
١٦ سبتمبر ٢٠٢٥

3d8eeeda3015.jpg
969961057d8b.jpg
وصفى هنرى معا للأبد الجارديان المصرية