د. نهال أحمد يوسف تكتب : الشرارة الأولى


في سياق الحياة الذي يفرض علينا ضغط التوقعات الجسيمة والمآلات العظمى، كثيراً ما يغيب عن وعينا الجوهر الساحر والعمق الفلسفي لـ "الشرارة الأولى". إننا نُفتَنُ بالقمة الشاهقة، فنغفل عن قيمة الحجر الأول الذي وُضع في أساسها، وتُبهرنا الرواية المكتملة، فنجهل قدسية الجملة الأولى التي تدافعت حروفها على ضفاف الصفحة البيضاء. هذا الانبهار بالنتائج النهائية يُنتج شللاً معرفياً، إذ يجعلنا ننظر إلى الرحلة ككتلة واحدة مستحيلة التفتيت، بينما هي في حقيقتها سلسلة من الانتصارات الدقيقة التي لا تتطلب سوى لحظة من العزم والإذعان للبداية. إن الرسالة الأعمق التي تحملها مسيرة الإنجاز ليست في عظمة الوصول، إنما في شجاعة البداية المتواضعة، وفي الالتزام الصارم بتلك الخطوات التي تبدو في باديء الأمر وكأنها قطرات تائهة في محيط لا قرار له. إننا مدعوون لإعادة تقدير اللحظة الآنية، لأنها مختبر التحول الحقيقي.
إن آفة التسويف ومَقتل الإرادة لا يكمنان غالباً في قصور الهمة، وإنما في استبداد المثالية المُشلّة. عندما نُبصر الغاية البعيدة، يستولي علينا شعور بالعجز أمام الهوة الشاسعة بين الواقع والطموح، فنختار الانسحاب التام خوفاً من النقص أو عدم الكفاءة. هذه الهزيمة النفسية تسبق أي محاولة فعلية. في هذا المنعطف الحاسم، يبرز التكتيك العبقري للناجحين عبر العصور: تجزئة العظيم إلى دقيق. إن القوة ليست في القفز من نقطة الصفر إلى المائة، إنما في إحداث الزخم المتراكم عبر الانتقال المتواضع من الصفر إلى الواحد، ثم من الواحد إلى الاثنين. هذه البدايات الصغيرة هي النواة التي تنمو حولها ثمار الاستمرارية، وهي بمثابة عقود صغيرة نبرمها مع أنفسنا، يسهل الوفاء بها، وتضمن استمرار شريان العمل دون الشعور بوطأة الضغط.
وما يدعم هذه الفلسفة هو الميكانيكية البيولوجية لـ بناء الزخم. فالدماغ البشري، في جوهره، آلة تتوق إلى المكافأة والإنجاز. عندما ينجح المرء في إنجاز مهمة صغيرة – ككتابة فقرة، أو إنهاء صفحة، أو ترتيب زاوية صغيرة – يتم إطلاق جرعة من هرمون الدوبامين، وهو هرمون المكافأة. هذه "الانتصارات الدقيقة" تُعيد برمجة المسارات العصبية، مُعزِّزة الشعور بالفعالية الذاتية والقدرة على المضي قدماً. إنها ليست مجرد خطوات؛ إنها وقود نفسي يقلب المعادلة: فبدلاً من أن تحتاج الإرادة لدفع الفعل، يصبح الفعل الصغير هو الذي يُنتج الإرادة للخطوة التالية. وهذا التأثير التراكمي هو ما يُفضي إلى الاندفاع الطبيعي غير القسري نحو استكمال الهدف، محطماً بذلك جدران المقاومة الداخلية التي لطالما عرقلت مسيرتنا نحو الإنجاز.
على الصعيد الروحي والإبداعي، تمثل "البداية الصغيرة" بيعة متجددة مع الذات، وتحدياً لجاذبية الخمول. فالقانون الكوني يقر أن الاستدامة تفوق الطاقة العارمة وتتجاوزها أثراً؛ فما جدوى شعلة تتوهج بضراوة للحظة ثم تخبو، إذا كان بمقدورنا إضاءة مصباح خافت يستمر في إنارة الطريق الطويل الممتد لعقود؟ إن مئة كلمة تُكتب بانتظام كل صباح هي نبع لا ينضب، بينما آلاف الكلمات التي تنتظر "الإلهام الكبير" تتحول إلى ركام من النوايا المؤجلة. هذا هو مبدأ النمو المضاعف، حيث تتراكم الإنجازات الصغيرة ليس بطريقة جمعية بسيطة، وإنما بطريقة أسية، حيث تُبنى كل خطوة جديدة على أساس متين من الخطوات السابقة، مما يخلق قفزات نوعية غير متوقعة في المحصلة النهائية.
ولعل أحد أبرز ثمار التركيز على البدايات هو التحرر من عبودية النتيجة. إن السعي الدائم نحو إرضاء معايير خارجية أو تحقيق مقياس معين من النجاح يمكن أن يكون قيداً يخنق الإبداع ويقتل متعة العمل. لكن عندما نُركز فقط على إتمام "الخطوة اليومية" التي لا تتعدى طاقتنا، فإننا نُعيد تعريف النجاح بكونه التزاماً بالعملية ذاتها، وليس الوصول إلى نقطة النهاية. هذا التحرير يسمح للكائن المبدع أن يتنفس، ويشجع على التجريب والخطأ، باعتبار كل خطوة، وإن كانت متعثرة، جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من النسيج الكلي للرحلة. عندها، يصبح الهدف ليس في الوصول، إنما في أن نصبح الشخص القادر على الإنجاز عبر الانخراط اليومي في الفعل، فنكتشف أن القيمة الحقيقية تكمن في صيرورتنا لا في حصادنا.
لذا، فلتكن رسالتنا الموجهة إلى كل نفس تتطلع إلى إحداث الأثر: لا تُحمل أحلامك الثقيلة على عاتق اللحظة الراهنة. تخلّص من وهم القفزة البطولية، واستبدله ببركة الخطوة الواحدة المقدسة. لا تنتظر أن يكتمل المشهد، ولا تستجدي الإلهام ليزورك؛ وإنما اجعل من عملك اليومي دافعاً للإلهام. ابدأ الآن، اكتب الجملة العرجاء، ارسم الخط غير المتقن، وقم بالمحاولة الناقصة. فكل بذرة تحمل في طياتها وعد الغابة، وكل نغم منفرد هو اللبنة الأولى لسيمفونية خالدة. إن أقدس ما تملكه في رحلتك ليس الترسانة الكاملة أو الوضوح المطلق للوجهة، وإنما إرادة الإطلاق التي تحوّل الفكرة العائمة إلى فعل ملموس. ابدأ بما تملك، حيثما تكون، واستسلم لقوة الزخم التراكمي؛ فمن رحابة الصدق في البدايات الضئيلة، تتشكل التحولات الكبرى وتنبثق العوالم التي لم تكن لتُرى لولا ضوء تلك الشرارة الأولى التي أضاءت طريقك.