الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 07:54 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الإعلامى الكبير محمد جراح يكتب : إيبوو ور والثورة الشعبية

الإعلامى الكبير محمد جراح
الإعلامى الكبير محمد جراح

في أدب النقد والمواجع

الدول مثل البشر لها مراحل ميلاد وشباب ورجولة وكهولة وضعف وشيب، هذه هي سنة الحياة فلا باق إلا الخالق الذي أبدع كل شيء بيديه، والمملكة المصرية القديمة مثلها مثل غيرها من الأمم والمماك مرت في تاريخها الطويل بمثل تلك المراحل التي تشهد الميلاد والنضج حتى الضعف والوهن لتبدأ من بعدها دورة جديدة في تاريخها الممتد منذ آلاف السنين، فإذا اعتبرنا ذلك الضعف والوهن مرضاً فهي كما هي المقولة الشهيرة أمة قد تمرض ولكنها لا تموت.
وعصر الدولة القديمة الذي ولد عفياً استمر لقرون في قوة وعنفوان وثراء عبرت عنه مظاهر الحياة في تلك الحقبة الزمنية البعيدة فاستمر اعتباراً من عصر الأسرة الثالثة واستمر حتى بدأ الضعف يدب في مفاصل المملكة اعتباراً من أواخر حكم الأسرة السادسة بعد أن ظلت لقرون تزهو في رفعة، وترفل في ثراء عبرت عنه العمائر التي زينت الأرض في تلك الفترة وكان أبرزها الأهرامات في عصري الأسرتين الثالثة والرابعة، ومعابد الشمس في عصر الأسرة الخامسة، ومعها المقابر التي اذدانت بدقيق النقوش، واحتوت على كل غال ونفيس سيكون في خدمة صاحبها في حياته الأخروية، فانتهت الدولة المصرية القديمة؛ أو الدورة التاريخية الأولى في أواخر القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وقد عجلت بنهايتها ثورة شعبية اندلعت في كل الأرجاء واستمرت ردحاً من الزمن سادت فيه الفوضى وتقطعت معه الأوصال، وقد عبر عنها وصورها من وجهة نظره رجل حكيم يدعى "إبوو ور" أو "أبوو العجوز".
وقد حفظ المصريون القدماء ما كتبه ذلك الحكيم ورووه، وظلوا يرددونه لأجيال طويلة، وقد سجلوا ما وصلهم من تدوينه على رقاع من البردي، وقد بقيت من صورها بردية أعاد نسخها وكتابتها كاتب أو أديب عاش في عصر الدولة الحديثة، وهي تلك البردية التي تعرف باسم بردية "ليدن” رقم 344 بعد أن انتقلت من مصر إلى حوزة متحف ليدن.
كان الرجل من دعاة الإصلاح في عصره وقد أدرك مفاسد الحكم، ولأنه كان من الطبقة الاستقراطية أو ما يمكن تسميتها بطبقة النبلاء؛ فقد كان يتمنى أن يأتي الإصلاح من الداخل، أو حتى بوحي ملك حازم وعادل دون أن تفرض الطبقة الأدنى أو العوام من الناس التغيير على هذه الطبقة الموسرة، ولهذا سنلاحظ اختلاط الاخلاص في روايته بالمبالغة في بعض الأحيان، مثلما سنلاحظ اختلاط التحسر بالأمل، والخيال بالواقع في مواضع كثيرة فيما دونه.
ويفهم مما رواه أنه تعاونت على اشعال فتيل الثورة مجموعة العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالدولة قد أمست فأصبحت وقد ولت عنها هيبتها، وهبطت الى مستوى من الضعف الشديد؛ فأصبحت كما عبر عن ذلك الهوان بأن أصبحت "في طريقها إلى أن تصب الماء لغيرها"، أي أن العامة والغوغاء هم من صارت لهم الغلبة والكلمة على أسيادهم مثلما كانت الدولة سيدة على غيرها من الأمم والممالك المحيطة بها، وقد ترتب على ذلك الضعف وندرة الإمكانيات شلل أصاب الذراع الفتية فأوقفها عن البناء، بل واحتجزت فتقيدت في الأغلال، وأصبح الأجانب الذين كانوا يخشونها يتجرأون فيقولون بصفاقة "إنها لن تستطيع أن تأتي أو تفعل شيئاً، فلم يعد لها من درع يحميها إلا تلك التلال من الرمال التي أصبحت هي كل سلاحها"!
ومضى ذلك الحكيم يقول إن ولاية الحكام فسدت على الرغم من أن العدالة كانت لا تزال باقية بشكل ما في الارض، ولكن المؤسف كان يكمن في خطأ تطبيقها، فعظماء البلاد لم تعد الأمور تبلغهم بعد أن صاروا في معزل عنها، وأصبح كل شيء يسير الى دمار، وعجزت الملكية عن كبح جماح الجنود المرتزقة حتى أصبحت خيرات مصر نهباً مشاعاً لكل من نزلها من دون أهلها!، ومضى يذكر ممتعضاً أن الجنود الذين تم تجنيدهم من أجل صالح الناس والبلاد قد أصبحوا ضمن الآسيويين الغرباء، أولئك الذين أتاحت لهم مستجدات الأمور والفوضى العارمة أن يكوونوا على اطلاع فيعرفوا أسرار وأحوال البلاد.
أشار إيبوو ور العجوز كذلك إلى عجز الدولة عن صد هجرات البدو الذين تجاوزوا في غفلة الحدود، وتسربوا دونما مشقة في أراضي الدلتا، وشاركوا بغشم المصريين في معايشهم بعد أن اعتبروا أنفسهم من خاصة أهل البلاد!، فتخربت الأقاليم، وتوافدت قبائل غريبة الى أرض مصر، أولئك الذين بوصولهم لم يستقر المصريون في أي مكان في وطنهم. ومضى يقول متألماً: "أصبح الأجانب مصريين في كل مكان، أما المصريون فقد تم اهمالهم، وصاروا هم الاغراب في وطنهم بعد أن عز الأمن في البلاد، فالطرق المحروسة صارت مكشوفة، وصار اللصوص والأشقياء يختبئون فوق الاشجار حتى إذا سار سائر بليل هبطوا من مكامنهم ليسلبوا منه ما يحمله، ويمضون فلا يتورعون وقد يشوهون وجهه بالعصي، وربما تمادوا في غيهم فقتلوه ظلماً، وأنه اذا مشى ثلاثة في طريق وجدهم الناس قد صاروا اثنين فقط، فغالبا ما تذبح الاغلبية الاقلية.
أشار الحكيم العجوز كذلك إلى تخاصم حكام الأقاليم، واستئثار أغلبهم بثروات أقاليمهم، وامتنعت الضرائب عن الخزانة المركزية، ولم تعد أسوان وجرجا تؤديان الضرائب نتيجة لشيوع الفتن، وكان له أن ينساءل: كيف سيظل بيت المال قائماً بدون موارده؟!، أشار كذلك إلى قلة السفن الآتية من الصعيد، وخراب المدن حتى صارت يباباً، وتوقف التجارة مع غرب آسيا؛ وذكر متأسفاً: وما عاد أحد يبحر ناحية ميناء "جبيل"، فكيف سندبر أخشاب توابيتنا بعد أن شاع الفقر وساد حتى أصبح مجيء أهل الواحات بمنتجاتهم البسيطة شيئاً ذا بال!.
في ظل تلك الفوضى والتخبط والضياع نشبت أحداث الثورة مصحوبة بعنف شديد وقد افتقدت الزعامة التي توجهها الوجهة الصحيحة، وكان طبيعياً والحال هكذا أن تستغلتها الغوغاء وأهل السوء، وتترس الجميع لبعضهم البعض، وأشهروا أدوات مهنهم كسلاح في وجوه بعضهم؛ وفتحت الدواوين، وسلبت كشوف الإحصاء، وألقيت قوانين دار القضاء في العراء ووطئت بالأقدام، واحترقت البوابات والأعمدة، وتهدمت الأسوار، ومضى مبالغاً وهو يصف ويدون متحسراً "أصبح الرجل ينظر إلى ابنه كأنه عدوه"، واستشرى النهب، وقست القلوب، وغزا الوباء الأرض، وأصبح مجرى النهر قبراً؛ وغدا مكان التطهر فيه بلون الدم، وعز الأمن فلم يعد له وجود، وتعطلت الزراعة، وعلى الرغم من أن إله النيل قد أفاض الماء فمن أسف لم يكن أحد يريد أن يفلح أرضه، وأصبح الصناع جميعهم عاطلين، وأصبح المهرة وبناة الأهرامات مجرد مزارعين، كما أصبحت العاصمة في خوف من العوز؛ وأصبح الناس يأكلون الحشائش ويبتلعون عليها الماء.
وفي ظل انقلاب الأوضاع تحدث عن طبقته التي ينتمي إليها بحكم أنه كان يعتبر من علية القوم فقال: "فارقت "النبالة" الدنيا، وأصبحت ربات البيوت يسألن في بؤس عما سيأكلنه، وذبلت أجسادهن في الأسمال، وغدا الأثرياء يولون، وغدا المحرومون مسرورين، وأصبح ابن الناس نسياً منسياً، وغدا ابن سيدته كابن خادمته، وتجرأت الجواري بأفواههن على أسيادهن، واذا تكلمت سيدة ثقل كلامها على خدمها، وأصبح العوام من أرباب الرفاهة، ومن لم يكن يتخذ نعلاً أصبح من الاثرياء، ومن لم يكن يعرف الظل صار صاحب ظل ظليل، ومن كان رسولا أصبح يرسل غيره، ومن كان شعره يتساقط من قلة الدهون أصبح يمتلك قدور "المر" الغالي، ومن لم يكن له صندوق أصبح صاحب أثاث، ومن كانت ترى وجهها في الماء أصبحت تمتلك مرآة، وولى وانقضى ما شهده الأمس؛ فليتها تكون النهاية فلا يحدث حمل ولا ولادة، وتهدا الأرض من الضجيج، ولا يكون هناك متخاصمون فما أشدها من قسوة عندما تسمع الأطفال وهم يقولون: ليت آباءنا لم يهبوا لنا الحياة، فهل سيصدقني أحد عندا أقول إن تماسيح النهر قد غصت بطونها بما أصبحت تقتنصه، فأي ألم ذلك، وأي مرارة تلك وأنت ترى الناس تذهب الى تلك الأفراس من تلقائهم؟!.
على أن الثورة لم تحرم مزاياها، لأنها وعلى الرغم من كل ماحدث من فوضى حركت ضمائر الحكماء ودفعتهم الى الاصلاح، ودعت الى التفكير فيما يجب أن يكون عليه سلوك الحكام، كما شجعت على مواجهة الملك بعيوبه، وعلى إعادة النظر في العقائد؛ وأدت الى نشأة طبقات جديدة تعتز بالعصامية أكثر مما تعتز بحسبها ونسبها، ومن بعد الضعف والفوضى كان التعافي والميلاد الجديد الذي بدأت تعود فيه الأمور إلى نصابها، ومهد لقيام عصر الدولى الوسطى..

محمد جراحء إيبوو ور والثورة الشعبية الجارديان المصرية