الجمعة 19 أبريل 2024 06:48 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الدكتور عماد عبدالرازق يكتب : حقيقة صوم رمضان بين المفكرين والفلاسفة

الدكتور عماد عبدالرازق
الدكتور عماد عبدالرازق

مما لاشك فيه أن الصوم يمثل عبادة من أسمى العبادات وأجلها؛ فهو مدرسة روحية لتهذيب النفس والحث على الفضائل السامية، وغرس القيم النبيلة، كما أنه شعيرة قديمة وجدت في كل الأديان سواء كانت أديان وضعية أو سماوية فهو ليس مجرد الجوع والعطش والحرمان من الملذات، وليس أيضًا فلسفة للوصول إلى خرق العادة كما هو موجود عند بعض أصحاب الديانات الوضعية، كما أنه لا يمت إلى نظرية اللذة في الألم بأي صلة.

نعم، هو امتناع عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لكنه له مقاصده العظيمة، وأسراره الكبيرة التي تعمل على بناء الفرد والمجتمع بل والأمة بأسرها، على قيم الرشد والتعاليم السامية والفضائل النبيلة، كل هذا يتم بعيدًا عن مظاهر الإسراف والتبذير، وفي توازن عجيب بين مطالب الجسد والروح. فالصوم يزكي النفس ويطهر الروح، ويشحذ الهمم والإرادة.

وفي هذا السياق نشير إلى أن حلول شهر رمضان كان من المناسبات الخاصة التي تحظى باهتمام فائق من الكتاب والمفكرين والمؤلفين، الكل يتبارى في ما سيكتبه عن صوم رمضان، وبما سيقدمه عن فيوضات الصوم وتجلياته في هذا الشهر الجليل، الذي يمثل منزلة عظيمة لدى المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها.

ولعل من أشهر هولاء المفكرين الذين سنلقي عليهم الضوء في مقالتنا هذه الكاتب مصطفي صادق الرافعي-و الكاتب و المفكر الكبير محمود عباس العقاد-و المفكر الإسلامي الكبير على عزت بيجوفيتش، ثم نعرج لبيان أسرار وحكمة صوم رمضان عند بعض الفلاسفة المسلمين ولعل أشهرهم الإمام أبو حامد الغزالي- والفيلسوف ابن سينا.

الصوم ثورة روحية عند الرافعي

كان ذلك حديث الرافعي عن صوم رمضان في أشهر كتبه (وحي القلم) ولقد أطلق تعبير يحمل دلالات كثيرة، ومعانٍ غزيرة أنه تعبير الثورة، بما تحمله من تغيير في السلوك والأخلاق، فالصوم من وجهة نظر الرافعي ثورة روحية لما يتضمنه من تهذيب للنفس، وجعل الناس سواسية ومتساوون، يصبغهم بشعور واحد، ومشاعر واحدة، يصمون في وقت واحد، ويفطرون في وقت واحد، وهذا له دلالة واحدة وهي المساواة والشعور بحالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح، يعلم الرحمة ويدعوا إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة وهي تلك التي بها يحدث مساواة الغني بالفقير، ومن هنا الصوم يحدث الهدوء النفسي، ويهيأ الأرواح لتتخلص من علوقها الأرضي متجهة إلى عالم أقرب و أطهر وأسمى، متخذه لطاقتها معراجا تعرج به نحو السماء([1]) ليس هذا فحسب بل يصف الرافعي الصوم بتعبير بليغ و بياني رائع ياخذ بالألباب، ويعطي القلب شحنة إيمانية تسري في الوجدان.

هذا التعبير هو أن الصوم فقر إجباري: وفي هذا السياق فالصوم فقر إجباري لأن الرافعي يرى أن هذا الحرمان من الطعام والشراب ومن شهوات الجسد ليس المقصود منه تعذيب النفس الإنسانية أو قهرها إنما شرع لغاية اجتماعية أعظم، فهو يجعل المرء يجوع ويترك شهوته لكي يحقق المساواة والوحدة بين أفراد الأمة.

إن الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضا ليتساوى الجميع في بواطنه سواء منهم من ملك المليون من الدنانير ومن لم يملك شيئا.

ليس هذا فحسب بل هو فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح ،ان الحياة الصحيحة هي التي يتساوى فيها الناس في الشعور. وتتعدد فوائد الصوم ولعل من أبرز هذه الفوائد هو وجود ألم في عملية الصوم، والذي يراه الرافعي له سر عظيم، هذا الألم النفسي والجسمي الناتج عن الامتناع عن الطعام والشراب إنما هو منشأ الرحمة. ولذا فإن من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم للصوم. ([2]) ويعرج الرافعي بعد ذلك للحديث عن شهر رمضان المعظم الذي له مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، لا ينازعه في هذه المكانة أي شهر آخر، ولما لا وهو الشهر الوحيد الذي ذُكر في القرآن، ونزل فيه القرآن، وبه ليلة هي أعظم ليلة من ليالي الدنيا وخير من ألف شهر، وهي ليلة القدر.

ويصف الشهر بقوله إن أيامه قلبية في الزمن، كما أن أيامه هي بمثابة ثلاثين حبة تؤخذ كل سنة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم. ولعل من أبلغ العبارات و الوصف الجميل عند الرافعي هو الحديث عن رؤية الهلال وما له من فرحة غامرة تسيطر على النفوس، وتشيع في القلوب الفرحة، وكيف أن رؤية الهلال هي تثبيت للعزيمة وإعلاء من شأنها، واستعداد لبداية الكفاح من أجل صوم هذا الشهر الفضيل.

وفي نهاية الحديث عن الصوم عند الرافعي نرى أنه يقوي العزيمة، ويهذب النفس و يقوي الروح، ويعلم الصبر.

الصوم و تجلياته عند العقاد

لعلنا نشير هنا إلى أن العقاد كتب عن صوم رمضان وهذا الشهر في: عدد رمضان من مجلة الهلال عام 1955، وفي كتابه (الإسلام دعوة عالمية) يشير فيه إلى أن حكمة الصيام في الأديان الكتابية كانت محصورة في أغراض معدودة، وهي تعذيب النفس والتكفير عن الخطايا والسيئات، وتربية الأخلاق على نحو من الأنحاء. أما الدين الإسلامي فهو الدين الكتابي الوحيد الذي فرض كتابه الصيام فترة معروفة من الزمن على نحو معروف من النظام.

ولا خلاف بين الأئمة أن الحكمة المقصودة بهذه الفريضة هي تقويم الأخلاق و تربيتها، ومن هنا فان الخلق الذي يعم الأغنياء والفقراء ويستفاد من فريضة الصوم هو الإرادة، فالإرادة لأزمة في كل تكليف وفي كل تبعة وفي كل فضيلة، فلا قوام للفرائض والفضائل جميعا بغير هذه الإرادة. وهي لازمة للفقير لزومها للغني([3] ). ومن هنا يصف العقاد شهر رمضان بالفريضة الاجتماعية، وأن أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، والخلق في الدين، وأن الخلق يجب أن يكون له تبعات وتكاليف، وأن من ملك الإرادة فأن زمام الخلق بين يديه. وأن رمزية شهر رمضان أنه فريضة اجتماعية على آحاد المكلفين، وهو موعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها على هذا النظام وتغيير العادات شهر في السنة تتلاقي فيه على سنن واحدة في الطعام واليقظة والرقاد.

الصيام التزام اجتماعي عند بيجوفيتش

في كتابه الشهير (الإسلام بين الشرق والغرب) يشير بيجوفيتش إلى أن المسلمين اعتبروا الصوم خلال شهر رمضان مظهرًا لروح الجماعة، ولذلك فأنهم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب، فالصيام ليس مجرد إيمان، وليس مجرد مسالة شخصية تخص الفرد وحده، وهذا التفسير للصيام كشعيرة دينية غير مفهوم عند الأديان الأخرى.

الصوم في الدين الإسلامي وحدة تجمع بين التنسك والسعادة، إنه مظهرًا من مظاهر الالتزام الاجتماعي. ويقول عن تجربته الشخصية مع الصوم أنه قضى في سجن فوتشا ذي الجدران العالية مدة ست سنوات، كان يشعر أن حالته تسوء عندما يتغذى جيدًا، وأن الجوع كان يساعده على رفع المعنويات بشكل أفضل.([4]) من هنا فالصوم له أسرار عظيمة وفوائد كثيرة لعل من أبرزها هو محاولة سيطرة الروح على الجسد، ومن هنا يدعو بيجوفيتش الأمة أن تتبنى تجربة الصوم في أيام معدودة، في حياتها بأسرها لكي تحقق النظام والمحافظة على الصلاة وتعلم الصبر واليقين.

الغزالي و أسرار الصوم

لعل من أبرز الفلاسفة المسلمين الذين تحدثوا عن الصوم و أسراره وفضائله هو الإمام الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين” في الفصل الرابع من الكتاب تحت عنوان “أسرار الصوم”. يقول: “الحمد الله الذي جعل الصوم حصنا لأوليائه وجنة، وفتح لهم أبواب الجنة وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها”. وفي هذا السياق يقسم الصوم إلى ثلاثة أقسام: 1-صوم العوام وهو كف البطن و الفرج عن قضاء الشهوات.

2-صوم الخصوص: وهو كف السمع و البصر و اللسان و اليد و سائر الجوارح عن الآثام.

3-صوم خصوص الخصوص: هو صوم القلب عن الهضم الدنية و الأفكار الدنيوية .[5]

من هنا يتضح أن للصوم أقسام لعل أرفعها وأسماها درجة هو صوم خصوص الخصوص، لأن به يصوم المرء أن كل شيء ما عدا الله، و يتعلق القلب بالله، وتتطهر النفس من علائق المحسوسات. لذا يرفعه الغزالي على باقي أنواع الصوم.

الصوم دواء عند الفيلسوف ابن سينا

ابن سينا من الفلاسفة المسلمين الذين أعطوا للصوم اهتماما كبيرا ووصفه كعلاج و دواء في بعض الحالات المرضية. فهو يرى أن الصوم عبادة بالإضافة إلى كونه علاج ودواء أيضا، بل كان يفضل الصوم على الدواء ويقول إنه الأرخص ويصفه للغني والفقير. وكان يفرض الصوم ثلاثة أسابيع في كثير من الحالات الطبية والمرضية التي تعرض له. ويرى أن الصوم عاملًا مهما في علاج الجدري و الزهري.

مما سبق نرى أن الصوم يمثل مدرسة روحية تهذيبية، يعمل على سمو الروح والأخلاق، ويغرس الفضائل النبيلة، ويطهر الروح والنفس، و يرقى بهما إلى معراج أرقى من المحسوسات.