الجمعة 18 يوليو 2025 07:28 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

صبري الموجي يكتب : أبو المكارم أباظة .. وقصةُ صفار البيض !

الكاتب الكبير صبرى الموجى
الكاتب الكبير صبرى الموجى

 لم يكن مقبولا بحال أن أكتبَ عن أستاذنا الخلوق محمد جودة قنديل، وأتجاهل الحديث عن رفيق دربه وتوأم روحه نافذة إطلالنا علي نسيم اللغة العربية، وطيب أريجها الأستاذ أبو المكارم أباظة سليل العائلة الأباظية بالشرقية، والتي ينتمي إليها كثيرٌ من رجال الفكر والأدب.

كانت العلاقةُ بين أبو المكارم ومحمد جودة وثيقة الصلة، فلا يُري أحدهما إلا بصحبة الآخر، ولا يُدعي واحدٌ لحفلٍ أو لقاء إلا وأخوه في يده، فجاز أن نقولَ إن الواحد منهما كان لأخيه بمثابة الظل للعود أو الروحِ للجسد.

عَشِقت اللغة العربية منذ نعومة أظفاري، وأتقنتُ التحدثَ بها، فقلما يلحن فيها لساني، أو يشذ عن طريقها بياني، وإن كان ثمة فضلٌ فبعد الله لأستاذي أبو المكارم أباظة - وطبعا رفعُ أبو المكارم علي الحكاية - رغم أنها في موضع جر، ولكن الجرَّ مع أستاذي لا يليق، فحقُه الرفعُ علي الرؤوس؛ لكريم فضله، وفيض عطائه، وحقا : (من علمني حرفا صرتُ له عبدا).

ولله درُ شوقي: قم للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلمُ أن يكون رسولا.

رغم صعوبة علم النحو إلا أن جهودَ أبو المكارم في تطويعه وكبح جماحه، صنعتْ بيننا وبينه ألفة وحميمية كيف لا ؟ ، وقد دربنا علي إعرابِ النصوص النثرية كاملة، فكانت حصةُ اللغة العربية ورشةً نتعلم فيها فنون العربية جميعها (بلاغة، وشعرا، إنشاء، وخطابة، إلقاء، وصرفا، إضافة إلي سيد اللغة، الذي هو منها بمثابة الدرة من التاج علم النحو).

درَّبنا أبو المكارم علي أن نكونَ أساتذة منذ الصغر، فكان يُلزم كلَ واحدٍ من الطلاب - طبعا والطالبات، وذكرتُ المذكرَ علي سبيل التغليب -  بتحضير الدرس وشرحه تماما كما لو كان هو مدرس الحصة.

كانت قضايا النحو وإعراب الكلمات والجمل هي وقودَ معاركنا ونكاتنا، طرائفنا وأحاجينا، وكان صخبُ وجلبةُ اعتراض بعضنا علي بعض، هو أعذب سيمفونية نتلذذُ بسماعها، وكان إعلانُ أبو المكارم أباظة اسم الفريق الفائز هو النصر المؤزر الذي تشرئب إليه الأعناق.

دربنا أبو المكارم علي ألا ننشغل بالإعراب، وننسي المعني بأمثلة منها: صفارُ البيض أبيضٌ أم أبيضَ؟

فُيسرع من لا يُعمل عقلَه في المعني بقول : أبيضٌ علي اعتبار أنها خبرٌ للمبتدأ صفار، فيقول أبو المكارم لا يمكن لصفارِ البيض أن يكون أبيض بل هو أصفرٌ، فتمتلئ قاعةُ الدرس بالقهقهة والضحك.

وكثيرا ما كان يُخطئ آخرون في إعراب كلمة الكوب في جملة : فِ الكوب ماء، فيظن أن الفاء حرف جر، فيُعرب الكوب اسما مجرورا بفي وعلامة جره الكسرة، فيرد أستاذنا: ف فعل أمر بمعني وفي والكوبَ مفعول به والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وماء تمييز منصوب بالفتحة.

كان أبو المكارم بجانب سعة العلم، والتضلع في علوم اللغة العربية شديد الظرف، مُحبا للطرفة، أذكر أن زميلا لي كان بينه وبين العربية  شقاقٌ وخصومة رغم تفوقه في المواد العلمية؛ ولأنه ضعيفُ في العربية آثر الصمت في حصة أستاذنا أبو المكارم؛ ليُغلق علي نفسه بابا لا يمكنه سدُه، عملا بالمثل : ( الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح).

وجلس يُوهمُ الأستاذ أبو المكارم بإنصاته له عن طريق هز رأسه كلما تلاقت عيناهما، فطنتُ للموقف، فهمست في أذن زميلي لأجرَّه للحديث معي أثناء شرح أستاذنا؛ ليلمحه ويُوسعه تقريعا تضج له قاعة الدرس بالضحك، وانساق المسكين لمكيدتي، فلمحه أبو المكارم، فاحمر وجهه وطلب منا الوقوف مُستفهما عن سبب انشغالنا عنه بحديث جانبي، فأجبتُ في ثبات - مُستندا إلي مكانتي في قلبه لتمكني من مادته - بأن زميلي يقول إن أستاذ أبو المكارم ضليعٌ في اللغة العربية كالأخفش، فشد أبو المكارم ياقة (بدلته) السفاري، ورد مُعجبا : أشكركما أي نعم !

ضج الفصلُ بالضحك، ونجَّت إجابتي زميلي - الذي وقف ترتعد فرائصه ولا تقوي رجلُه علي حمله - من ورطة أوقعتُه فيها.

أبو المكارم أباظة نموذجٌ مُشرف للمُعلم الظريف، والمدرس المُتمكن، والإداري الفاهم، وهو ما جعله في قريتنا واحدًا من جيل الرواد.