الجمعة 28 مارس 2025 04:30 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : معرض القاهرة للكتاب: من مهرجان الفكر إلى مهرجان اللقطة

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

اليوم ، يُفتح معرض القاهرة الدولي للكتاب أبوابه للجمهور في دورته الجديدة، ولكن مع كل افتتاح، لا بد أن تثار العاصفة نفسها من الاستهجان والانتقاد، تلك التي تعكس التدهور الثقافي الذي يعاني منه المعرض منذ انتقاله إلى مقره الجديد. هذا المعرض الذي كان في يوم من الأيام منارة للأدب والفكر، أصبح اليوم ساحة يتزاحم فيها المنتفعون والظواهر التجارية، بينما يتم تجاهل المبدعين الحقيقيين الذين طالما أسهموا في إثراء الساحة الأدبية المصرية والعربية. وكأن المعرض قد أصبح ملعبًا خاصًا لمجموعة صغيرة من "الشلة" التي تسيطر على كل شيء، ولا تترك مكانًا إلا لأسماء بعينها، بينما يتعرض الكتاب الجادون والتجارب الأدبية المبدعة للتهميش.

ويزداد الأمر سوءًا مع كل دورة جديدة للمعرض، حيث تتزايد شكاوى دور النشر من التكاليف الباهظة لتأجير منافذ العرض، وهي تكاليف جعلت العديد من دور النشر الصغيرة والمتوسطة غير قادرة على التواجد والمشاركة، في وقت أصبح فيه المعرض أشبه بواجهة تجارية تسعى إلى الربح السريع بدلاً من أن يكون منصة للتبادل الثقافي الرفيع.

من جهة أخرى، يندد العديد من المبدعين المحققين بتجاهل أعمالهم الحقيقية، بينما يُفسح المجال أمام الوجوه الشهيرة التي تحظى بتقدير لا يرتبط بالجودة الأدبية بقدر ما يرتبط بالمصالح والعلاقات الشخصية. هؤلاء الكتاب الذين أُقصوا عن الأضواء لم يعد أمامهم سوى أن يشهدوا على تفوق البهرجة الإعلامية على الفكر المبدع، في صورة محزنة لصورة ثقافية محورية كانت تقف شامخة يومًا ما.

لم يكن معرض القاهرة الدولي للكتاب في يوم من الأيام مجرد حدث ثقافي عادي. بل كان بمثابة عيد للمثقفين والكتاب، فرصة لتبادل الأفكار، والانفتاح على الآراء الجديدة، والاحتفال بالفكر والإبداع. كان المعرض في بداياته، منذ انطلاقه في عام 1969، منصة تشع بالضوء الثقافي، حيث كان يجذب نخبة الأدباء والمفكرين والقراء الذين جاءوا من كل حدب وصوب للاستمتاع بكنوز الكتب والمعرفة. لكن، كما هو الحال مع العديد من الأمثلة التاريخية، لا شيء يبقى على حاله. اليوم، تحول المعرض إلى ما يشبه الواجهة الزائفة لمدينة لا تعرف شيئًا عن الثقافة، سوى أنها وسيلة للربح السريع والتسويق الفارغ.

لنكن صريحين، ما الذي يحدث للمعرض الآن؟ أصبح الحدث الثقافي الأكبر في العالم العربي مجرد "ملهاة" يتوافد إليها عدد كبير من الزوار، لكن للأسف ليس للاطلاع على أحدث الإصدارات الأدبية أو الفكرية، بل للحصول على لقطة سيلفي مع الكاتب "الشهير" أو الشخص "المرموق" الذي يقف على منصات العرض. بل، إذا كنت تبحث عن الأفكار العميقة أو النقاشات الهادفة، عليك أن تتحلى بالصبر، لأن كل ما ستجده هو جوقة من المنتفعين وأصوات مصطنعة يتنافسون على مكاسب لا علاقة لها بالفكر، بل بكل ما هو سطحي ومرتبط بمصالح شخصية.

لم يعد المعرض "شرفًا" للكتاب الحقيقيين الذين طالما أبدعوا في صمت بعيدًا عن الأضواء، بل أصبح مناسبة يتسابق فيها المنتفعون والمتنطعون للتباهي في دائرة ضيقة من العلاقات والمصالح، تلك التي تدير عجلة المعرض بلا طائل حقيقي. فإذا كنت تعتقد أن هذا المعرض يعكس نبض الثقافة والأدب المصري، فأنت ما زلت واهم. الواقع أنه في ظل هذه الهيمنة المتزايدة للمصالح الخاصة، يقتصر المعرض على تقديم منتج ثقافي يفتقر إلى أصالته، وتفتقد في طياته القيمة الفكرية الحقيقية.

قد يعتقد البعض أن التحول جاء نتيجة عوامل خارجية، لكن الحقيقة أبسط من ذلك. فكل هذه التغييرات التي شهدها المعرض تعود إلى فشل فادح في إدراك ما يحتاجه المجتمع الأدبي والثقافي، وتحول المعرض من فضاء للتنوير والنقد إلى مجرد عرض تجاري لا يختلف عن باقي المهرجانات السياحية التي تملأ الحوارات العامة في مصر. لقد كان من المفترض أن يظل المعرض نقطة التقاء للكتاب والمفكرين والمبدعين، لكن الواقع كان مريرًا. فبدلاً من أن يكون مركزًا فكريًا ناضجًا، أصبح المعرض مجرد منصة عرض لأحدث المنتجات الأدبية التجارية التي تروج لها نفس الوجوه والعناوين المتكررة التي لا تجرؤ على تقديم شيء جديد أو جريء.

أما الزوار، فباتوا اليوم يتوافدون للمعرض وكأنه سوق تجاري مفتوح، مليء بالخيارات، لكن بدون "الجدوى" الثقافية. فما الذي سيتعلمه الشاب الذي جاء من مناطق نائية لزيارة المعرض، إن لم يكن مجرد تجميع الصور والكتب التي يتم شراءها لمجرد "التفاخر" أمام الأصدقاء؟ المعرض أصبح يعاني من تآكل روحي، وسط غياب مؤسسات قادرة على تنظيم فعاليات جادة أو جلسات نقاش مثمرة، بعدما أصبحت الجوانب التجارية هي الغالبة على كل شيء.

هل من الممكن أن نعود إلى جوهر المعرض القديم، ذلك المعرض الذي كان يلتقي فيه الكتاب بمفكريهم؟ هل من الممكن أن نعيد له جاذبيته الثقافية الحقيقية؟ ربما. ولكن ذلك يتطلب إعادة التفكير في بنية المعرض وأهدافه، وإنهاء سيطرة المنتفعين والجوقة التي لا تزال تتحكم في مساره، وتنحي المصالح الشخصية جانبًا لصالح الثقافة الحقيقية والفكر الخلاق.