السيناريست عماد النشار يكتب : سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ: حِينَ اهْتَزَّ لَهُ العَرْشُ


كان الفجر في يثرب يطلّ هادئًا، تتسلل خيوط الشمس عبر الأزقة الرملية، فتوقظ الأرض على إيقاع يوم جديد. في بيت واسع الأرجاء، وسط قومه من بني عبد الأشهل، جلس سعد بن معاذ سيد الأوس، عيناه تتأملان في الأفق البعيد، بينما عقله كان غارقًا في أفكار لا يعرف لها مخرجًا.
منذ صباه، عُرف سعد بقامته الطويلة، ووجهه الذي يعكس صرامة القائد، لم يكن رجلًا يُجادَل كثيرًا، ولم يكن ممن يتراجعون عن قراراتهم. كان سيدًا بحق، يُؤخذ برأيه، وتُحسم عنده النزاعات، لكنه كان أيضًا رجلًا يعرف كيف يصغي، كيف يقرأ العيون قبل الكلمات.
اليوم، كان مختلفًا. لم يكن اجتماع القوم حوله لأمر عادي، بل لأمر قلب المدينة رأسًا على عقب. رجل من مكة يُدعى محمد يدعو لدين جديد، ومبعوثه في يثرب، مصعب بن عمير، يتجول بين القبائل، ينشر كلمات لم يسمعوا مثلها من قبل.
كان سعد يستمع إلى الأحاديث المتضاربة، البعض يقول إنه شاعر، البعض الآخر يهمس بأنه ساحر، لكن ما أثار قلقه حقًا، هو أن صديقه المقرب أسعد بن زرارة قد آمن به. ولم يكن أسعد رجلاً يقتنع بسهولة.
"علينا أن نعرف من هو هذا الرجل؟"،قالها سعد أخيرًا، ونهض، بعينيه نظرة من قرر المواجهة، ليس فقط ليعرف، بل ليضع حدًا لهذا الزخم الذي بدأ يطغى على المدينة.
لم يكن مصعب بن عمير قد التقى سعدًا من قبل، لكنه كان يعرف أن هذه المواجهة ستكون لحظة فاصلة. حين دخل سعد عليه، كان واضحًا أنه لم يأتِ ليسمع، بل ليحسم الأمر. كان رجلًا لا يترك الأمور معلقة.
"ما الذي جاء بك إلى أرضنا؟" قال سعد، وصوته كان حادًا، يحمل صرامة لا تخطئها الأذن. لم يكن غاضبًا، بل كان مثل الفارس الذي يطلق سؤاله الأول في معركة تحتاج إلى قرار سريع.
ابتسم مصعب، لم يكن غريبًا عليه هذا الموقف، لكنه لم يكن ممن يخشون المواجهة. "جئت لأدعوكم إلى كلمة سواء، إلى دين يحرركم من عبادة الأصنام، ويعيدكم إلى عبادة الله الواحد".
ساد الصمت، فقط صوت الريح العابرة بين المنازل الطينية. نظر سعد إلى أسعد بن زرارة، كأنه يبحث في عينيه عن تفسير، لكنه لم يجد إلا إيمانًا ثابتًا. كانت عينيه تنطق بالحقيقة التي بدأ سعد يشعر بها، تلك الحقيقة التي كانت عميقة، صامتة، لكن تحمل من القوة ما يكفي لتغيير كل شيء.
"وإن لم أقبل؟"، قال سعد، متراجعًا خطوة إلى الخلف، وكأن كلماته كانت تُقيّم المسافة بينه وبين قرار لم يتخذه بعد.
"فذلك شأنك، أنا لا أُكره أحدًا"، ولكن دعني أقرأ عليك ما أُنزل على النبي، ردّ مصعب بصوت هادئ، لكن كلماته كانت تحمل عزمًا أكبر من مجرد دعوة.
أومأ سعد، ربما بدافع الفضول، وربما لأن هناك شيئًا في قلبه بدأ يتحرك دون أن يدري. كانت الكلمات التي خرجت من فم مصعب كالنهر الذي يبدأ بهدوء، ولكن سرعان ما يتسارع جريانه.
وحين بدأت آيات القرآن تتردد في أذنه، كان الأمر كما لو أن بابًا قد فُتح، باب لم يدرك أنه كان مغلقًا طوال حياته. شعر وكأن شيئًا ما يهتز داخله، شيئًا لا يستطيع السيطرة عليه. كانت الكلمات تتسلل إلى أعماق قلبه، كما لو أنها تنتزع القسوة التي كانت تشده بعيدًا عن الفهم.
وحين انتهى مصعب، لم يتكلم سعد على الفور، فقط نظر إلى الأرض، وكأنه يعيد ترتيب أفكاره، يبحث عن الكلمة التي تخرج من بين شفتَيْه بكل صدق. وأخيرًا، رفع رأسه، بعينين تلمعان بشيء لم يكن موجودًا فيهما من قبل.
"كيف يُسلم الإنسان قلبه لهذا؟" قالها بصوت منخفض، كأن الكلمات نفسها كانت تتساقط من بين شفتيه بثقل غير مسبوق.
لم يكن إعلان سعد لإسلامه قرارًا سهلًا، إذ كان يعلم تمامًا عواقب هذا القرار، لكن ما جعله أقوى من التردد هو إيمانه العميق الذي لا يقبل المساومة. عاد إلى قومه، والقرار محفور في قلبه، لكنه كان يعرف أن الأمر لن يكون مجرد إعلان، بل مواجهة.
وقف بينهم، وسط رجال يعرفونه جيدًا، وسط من كانوا يرون فيه سيدهم الذي لا يُردّ له طلب، وقال بصوته الذي لا يعرف التردد:
"يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟"
قالوا جميعًا: "أنت سيدنا وأفضلنا رأيًا."
ابتسم، لكن الابتسامة لم تكن كما يعرفها الناس، كانت ابتسامة من عرف أن لحظة التحدي قد حانت. "فإني قد حرّمت عليكم الكلام معي حتى تؤمنوا بالله ورسوله."
ساد الصمت، لم يتوقع أحد هذا، لكنهم كانوا يعرفون سعدًا، يعرفون أنه حين يُقرّر، فهو لا يتراجع.
ولم تمر ساعات حتى أعلن الجميع إسلامهم.
إلى هنا، القصة لا تزال في بدايتها...
هذا مجرد بداية لرواية كاملة، وما زالت هناك عشرات الفصول تنتظر أن تُكتب: دوره في بدر، موقفه في الأحزاب، إصابته في الخندق، لحظة وفاته التي اهتز لها العرش.
كانت المدينة تنبض بالحياة، لكن في زواياها كان هناك توترٌ خفيٌّ يتصاعد، كأن الهواء نفسه كان يعلم أن هناك شيئًا عظيمًا قادم. جلس سعد في مجلسه بين قومه، عيناه تمسحان وجوه الرجال الذين أصبحوا مسلمين بسببه. لم يكن أحدٌ يجرؤ على الشك في إيمانه، لكنه كان يعلم أن الإيمان يُختبر في الميادين، لا في المجالس.
وفي تلك الليلة، طرق الباب رسولٌ من عند النبي. "يا سعد، إن رسول الله يستشيرك في أمر عظيم."
نهض دون سؤال. لم يكن من أولئك الذين يسألون عن السبب قبل أن يتحركوا.
عندما وصل إلى النبي، كان هناك اجتماعٌ لم يشهد مثله من قبل. رجال من المهاجرين والأنصار، وجوههم متجهمة، والهواء مشبع بروح القرار.
"أشيروا عليّ أيها الناس"، قال النبي، وعيناه تلمعان في ضوء المشاعل.
نهض رجلٌ من المهاجرين، تحدث بحماسة، ثم آخر. كلماتهم كانت قوية، لكنها لم تكن ما يبحث عنه النبي. كان هناك شيء ناقص.
أدرك سعد ذلك. كان يعرف أنه يُخاطب قومًا يعرفون في أعماقهم أنهم مقبلون على معركة تغير مجرى التاريخ، لكنه كان يعلم أيضًا أن النبي يريد أن يسمع منهم، أن يسمع صوتهم يقول: نحن معك حتى النهاية.
نهض سعد، وطاف بنظره على الرجال حوله، ثم ثبت عينيه في عيني النبي، وتحدث بصوته العميق، الذي كان حين ينطلق، لا يتوقف حتى يستقر في القلوب.
"يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فوالله لو خضت بنا البحر لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًّا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صِدْق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك."
ساد الصمت. للحظة، لم يكن هناك سوى صوت حسيس النار تتراقص في المشاعل، ثم رأى سعد الابتسامة على وجه النبي، تلك الابتسامة التي يعرفها، ابتسامة رجل وجد ما كان يبحث عنه.
وفي الصباح، كان الجميع يسيرون نحو بدر، وكانت هذه أول معركة تُكتب فيها أسطورة سعد بن معاذ.
لم تكن المعركة كما تخيلها البعض. لم تكن مجرد مواجهة بين جيشين متكافئين، بل كانت صراعًا بين قلة مؤمنة لا تملك سوى سيوفها وإيمانها، وجيش اعتاد أن يسحق أعداءه بعنف وقوة البأس.
سعد كان هناك، في الصفوف الأولى، عينيه تتنقلان بسرعة بين ساحة القتال، يراقب المشهد بعين صقر، سيفه يشع بين يديه وكأنه امتداد لروحه. كان يعرف أن هذه اللحظة ليست مجرد معركة، بل امتحانًا لكل شيء آمن به.
الدماء تسيل على الرمال الحارقة، والغبار يملأ الأجواء، تتطاير الأشلاء والصرخات تنطلق من الحناجر. كل ضربة من سيفه كانت تحمل في طياتها عزيمة، وكل خطوة تجرّه إلى قلب المعركة كانت تُظهر له مدى عمق إيمانه، لكن لم يكن لديه وقت للتفكير. كانت الحرب مثل نهر جارٍ، لا يستطيع إلا أن يندفع فيه بلا تردد.
رأى رجاله يسقطون، أجسادهم تتناثر على الأرض كما لو كانوا قد سقطوا في وجه الرياح العاتية، لكن سعد لم يتراجع. في اللحظة التي شعر فيها بذراعه تتثاقل من كثرة الضربات، رفع رأسه، فمرّت أمامه صور وجوه رفاقه الثمانية الذين استشهدوا، لكن نظرته لم تتراجع.
رأى النبي في قلب المعركة، يدعو الله بقلبه، رافعًا يديه كأنما يستدعي النصر من السماء. في تلك اللحظة، تجمد الزمن حوله. كيف يمكن للروح أن تصمد في وجه هذا كله؟ كيف يمكن لجسد أن يظل ثابتًا وسط هذه الفوضى؟ لكنه تذكر، هذا اختبارٌ حقيقي لإيمانه.
وفي النهاية، حين سقطت رايات قريش في الرمال، ووقف المسلمون وسط الجثث، يلهثون تحت شمس الظهيرة الحارقة، نظر سعد إلى النبي، ولم يقل شيئًا. فقط ابتسم، ابتسامة تأثرت بأثر الدماء على يديه. لقد كان هذا اليوم الذي تغير فيه التاريخ، وكانت هذه الحرب التي جعلته يدرك أن الدماء التي سفكها اليوم كانت ثمنًا لحياة أمة بأكملها.
لكن الحرب لم تكن فقط في ساحة القتال.كان هناك عدو آخر، مختبئ بين جدران المدينة، يبتسم في وجهك صباحًا ويطعن ظهرك ليلًا. كانوا هناك، في أوكار وجحور بني قريظة، يراقبون المسلمين بعين الحقد، ينتظرون لحظة ضعف، لحظة يُكشَف فيها ظهر المدينة، لحظة يسقط فيها السيف.
وجاءت تلك اللحظة.
في ليلة حالكة، حيث الريح تحمل همسات الخيانة، وصلت الأخبار: "اليهود غدروا." لم يكن هناك وقت للتردد.
حين وصل سعد إلى النبي، كانت المدينة تغلي. الجميع يتساءل: ماذا نفعل؟ كيف نواجه الطعنة من الداخل؟ كان التوتر يخيم على الجميع، ووجوههم متجهمة مليئة بالحيرة.
نظر النبي إلى سعد، ثم قال: "أنت صاحب القرار."
لم تكن تلك الكلمات مجرد استدعاء لحكمة أو رأي، بل كانت تتضمن مسؤولية عظيمة. الوقوف هنا ليس بالأمر السهل، لكن سعد لم يتردد. كان يعلم أن الرأفة في موضع الخيانة ضعف، وأن اللين في وقت الحرب هزيمة.
وقف أمامهم، مجروحًا، لكنه لم يكن ضعيفًا. قلبه كان يضرب في صدره بعنف، لكنه كان يعرف ما يجب فعله.
"يُقتل الرجال، وتُسبى النساء، وتُقسم الأموال." كانت كلماته حاسمة، باردة، كأنها صاعقة في قلوب الحاضرين.
لم يكن هناك جدال، فقط تأكيد من النبي: "لقد حكمت بحكم الله."
في تلك اللحظة، شعر الجميع بثقل القرار، لكنهم كانوا يعرفون أن العدالة لا تعرف الرحمة مع الخونة. وفي عيون سعد، كان هناك شيء أكثر من حكم، كان هناك إيمان بأن هذا الطريق هو الطريق الصحيح، حتى وإن كان قاسيًا.
لكن الحرب، كما تفعل دائمًا، تأخذ معها أفضل الرجال.
لم يأتِه السهم من الأمام، بل من مكان لم يكن يراه. كأن القدر اختاره ليكون درسه الأخير: حتى أعظم الرجال لا يفلتون من الموت.
حملوه إلى المدينة، والدماء تنزف منه ببطء، وحين سقط جسده على الأرض، كانت تلك اللحظات تتسرب ببطء كما لو أن الزمن توقف. لم تكن دماء الضعف، بل دماء رجل أعطى كل شيء، ولم يطلب شيئًا في المقابل.
وفي المسجد، حيث كان الصحابة يلتفون حوله، كانت الأضواء الخافتة للمشاعل تلامس وجهه في تلك اللحظات الأخيرة، ينتظرون كلمة أخيرة.
رفع سعد رأسه، ونظر إلى السماء، وقال:
"اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل موتي فيها."
لم يكن هناك صرخة، لم يكن هناك ألم.
فقط ابتسامة هادئة، ثم سكونٌ تام.
وحين خرج الرجال يحملون جسده، كان الهواء في المدينة مختلفًا. كان هناك رجفة خفية في السماء، كأنما اهتزت الأرض تحت أقدامهم ، وكأن الفضاء نفسه يودعه في تلك اللحظات.
وفجأة، سمع الجميع النبي يقول بصوت لم يسمعه أحدٌ من قبل:
"اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ."
لم يكن يومًا عاديًا، لم يكن موتًا عاديًا.
حين وصل النعش إلى المقبرة، شعر الصحابة أن النعش كان خفيفًا بشكل غريب.
همس أحدهم: "ما أخف جنازته!"
لكن النبي، الذي كان يسير معهم، نظر إلى الأعلى، وكأنه يرى شيئًا لا يراه غيره، ثم قال:
"لقد نزل سبعون ألف ملك لم يطأوا الأرض من قبل، يشهدون جنازة سعد."
لم يكن هناك أحدٌ يتحدث، فقط الدموع تتساقط، ليس حزنًا، بل إجلالًا لرجل عاش ست سنوات في الإسلام، لكن أثره بقي خالدًا إلى الأبد.
وفي تلك الليلة، حين نامت المدينة، وحين هدأ كل شيء، بقي صوت النبي يتردد في أذهانهم:
"اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ."
عاش سعد بن معاذ سبعًا وثلاثين سنة، لكن ست سنوات فقط كانت هي التي خلّدت اسمه في صفحات التاريخ، سنوات قضاها في الإسلام، منذ أن أسلم حتى استشهاده في ريعان شبابه. هذه السنوات الست كانت أطول من أعمار أمم، فقد امتزجت فيها التضحيات والمواقف التي غيّرت مجرى الأحداث، وكان فيها نجمًا ساطعًا في سماء الأمة، يضيء طريقها ببطولاته وإيمانه الراسخ.
في تلك السنوات الست، التي لم يتوقف فيها عن العطاء، كان يزرع في قلوب المؤمنين الثبات والإرادة، ويقودهم في أصعب المعارك. سنواته كانت ملهمة، تعلم فيها المسلمون أن الشجاعة لا تأتي فقط من القوة البدنية، بل من قوة الإيمان، وأن التضحية لا تقاس بالزمن بل بالنية الصافية.
ومع رحيله، لم يكن فراقه نهاية لحياة بشريّة، بل بداية لعهد جديد. فكل ما زرعه في هذه السنوات الست استمر في النمو، وأصبح حجر الزاوية لأمة عظيمة لم تكن لتقوم كما هي الآن لولا تضحياته التي أسست لبقاء الأمة وازدهارها.