السبت 3 مايو 2025 02:29 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : ونَغرسُ فيأكلُ مَـنْ بعـدَنا !

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ هذه الجملة وردت على لسان فلاح فصيح؛ إذ يُحكَى أن مَلِك الفرس مــرَّ يوما بفلاح مُسـنٍّ يغرس شجرة زيتون، فقال له متعجبا: ما بالك تغرس شجرة بطيئة الإثمار وأنت رجل هَــرِمٌ؟ فهل تأمل أن تأكل من ثمرها؟ فـقال الفلاح: غَـرَسَ مَـن قبلَنا فأكلْنا، ونغرس فيأكل مَـن بعدَنا! فاستحسن الملك جوابه وأمر له بجائزة، فقال الرجل: أرأيت أيها الملك ما أسرع إثمار غرسي! فأمر له بجائزة أخرى، فقال الرجل: الغَـرْس يثمر مرة في العام، وغرْسي أثمر مرتين في ساعة! فقال الملك لمن معه: هيّـا بنا فلو أطلْنا الوقوف مع الرجل لنفـدتْ خزائنُنا! وهذا على سبيل المبالغة.
ــ تحمل هذه الحكاية رسالتين: إحداهما أنها تبرز العناية بالزراعة؛ فهي من أهمّ المرتكزات الاقتصادية لبناء الوطن والارتقاء بالمجتمع؛ لأنَّها أساس المواد الخام للصناعة، وتعتمد عليها التجارة كثيرا، فضلا عن ذلك فهي المصدر الأول للغذاء، وقد أكد الإسلام أن المرء إذا أصبح معافى في صحته آمنا في بلده عنده رزق يومه فقد امتلك القوة، وامتلك قراره، ومن ثم فالأمة التي تمتلك غذاءها تمتلك قرارها؛ لذا أمـر الإسلام بالزراعة، فقال النبي: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ» أي فليُعطِها غيرَه يزرعها إيجارا أو مشاركة أو بيعا؛ فيعود نفعها على الطرفين ومن ثم على المجتمع كله، وهنا تبرز رؤية النبي بصفته حاكما للدولة.
ــ وبلغت العناية بالزراعة أن قال النبي: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»، فهذا الحديث يبرز قيمة الزراعة في الإسلام ويحفِّز المسلم عليها، وصحّ عن النبي أن «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ»، وهذا الحديث يُفسَّر في سياقه؛ فالنبي تكلم بصفته الحاكم، فهو يسنُّ قانونا للصالح العام؛ لأنه يعلم دور الزراعة في بناء الدولة وقوتها، ومن ثم فالإحياء مقيَّد بعدم التعدي على الملكية العامة أو ممتلكات الآخرين أو مخالفة القوانين؛ والتعدي ظلم يستوجب العقاب؛ ففي الحديث «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِين»، ومن الظلم تجريف الأرض الزراعية لاستثمارها في البناء؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقص المنتجات الزراعية، فيضعف الاقتصاد الوطني فتُرهَق الدولة وتزيد أعباء المواطنين.
ــ وبالغ الإسلام في العناية بالزراعة فشبَّه الإيمان بالنخلة النافعة للناس وشبَّه الكفر بشجرة الحنظل الضارة لهم في إشارة إلى توجيه الناس إلى زراعة النباتات النافعة لهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا .. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}، وفي الحديث «أنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: خـذه يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ، فَقَالَ أَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، أَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ»، والمعنى أن الجنة مع ما فيها من النعيم طلب رجل أنْ يَزْرَعَ في الجنَّةِ بنفْسِه، فسأله ربنا: ألستَ تتقلّب في النعيم؟ فأقـرّ الرجل بذلك، فأذن الله له فيما طلب، فأَلْقى الرَّجُلُ البُذُورَ على أرضِ الجنَّة، فخرج النَّبات واستوى واشتد وتـمّ حصاده في لمح البصر، وكان النبات مِثْل الجِبالِ في ضَخامتِه، ثم بيَّن ربنا طمع الإنسان فلا يشبعه شيء! فلمَّا سَمِع الأعرابِيُّ الحديثَ داعب النبي بقوله: هذا الرجل إما مِن قُرَيشٍ أو مِن الأنصار؛ فهم أهْل الزَّرع، أمَّا نحْن الأعرابَ فلَسْنا بأصحابِ زَرْعٍ، فضَحِك النَّبيُّ.
ــ والرسالة الأخرى أن هذه الحكاية تحـثُّ على العمل الصالح بشكل مطلق فإنه مثمر لصاحبه وإن لم يأكل من ثماره، فسيأكل منه غيره ويثاب عليه صاحبه؛ لأنه من سعيه، والله يقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}، وحـثَّ النبي على العمل النافع للمجتمع فقال: «سبعٌ يَجري للعبدِ أجرُهُنَّ في قَبرِهٍ بعدَ موتِهِ: مَن علَّمَ عِلمًا، أو أجرَى نهرًا، أو حفَر بِئرًا، أو غرَسَ نخلًا، أو بنَى مسجِدًا، أو ورَّثَ مُصحفًا، أو ترَكَ ولدًا يستغفِرُ لهُ»، فهذا الخطاب ترغيب للمسلم أن يكون إيجابيا نافعا للمجتمع بفعل الخير للناس، وهو مُطالَب بالسعي والعمل والاجتهاد، وإن لم يجْنِ ثماره فسينفعه عند الله، قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}، فكل عمل للمؤمن ينفع المجتمع هو عبادة يتعبَّد بها إلى الله ويثاب عليه، وقد أمرنا الله به فقال للنبي: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ}.