حسين السمنودى يكتب : ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا )


في زمنٍ امتلأت فيه القلوب بالقلق، وتراكمت فيه على النفوس هموم الغلاء والخوف من الغد، يقف البعض على منابر الحديث يُرهبون الناس من المستقبل، يُشيعون الهلع، يضخمون الأزمات، ويجعلون الأيام القادمة كأنها سوادٌ مطبق لا نجاة منه. وكأن الله جل جلاله غاب عن المشهد، أو أن رحمته قد توقفت عند حدود اللحظة الراهنة.
لكن المؤمن الحقيقي، حين تضيق به السبل، وتكثر عليه الكروب، يردد بثقة ويقين قول الله تعالى: "لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا". هذه الآية العظيمة، التي جاءت في سياق قصة يوسف عليه السلام حين أراد أحدهم حبس أخيه، فكانت الآية بمثابة النور الذي يخترق ظلمة المجهول، والتذكير الذي يعيد البوصلة إلى أيدي المتوكلين على رب العالمين.
"لعل الله يحدث"… فلا قنوط، ولا يأس، ولا انكسار دائم، ولا بقاء لألم أو ضيق، فالله الذي يُغير الأحوال في لحظة، والذي يُبدل المحن إلى منح، لا يعجزه أن يُخرج الأمة من كل نفق مهما اشتدت ظلمته.
إن الذين يُرعبون الناس صباح مساء، ويجعلون الغد مرادفًا للفقر والجوع والانهيار، يغفلون عن أسماء الله وصفاته، عن كونه اللطيف بعباده، الكريم في عطائه، الرزاق ذو القوة المتين. يغفلون أن الله حين يبتلي، فهو أرحم من أن يُهلك، وحين يقدر الضيق، يخبئ في باطنه الخير الكثير. لقد رأينا ذلك في التاريخ مرارًا، فكم من أمة خافت من الغد، فأتاها الفرج من حيث لا تحتسب، وكم من عبد حُرم من شيء فآتاه الله خيرًا منه بأضعاف.
الخوف الطبيعي من القادم لا حرج فيه، بل هو من دوافع الحرص والعمل، ولكن أن يتحول إلى وسواس دائم يُقعد النفوس ويُطفئ الأمل، فذلك سُمّ يتسلل إلى القلوب ويجعلها رهينة الظن السيئ بالله، وهذا ما نحذر منه. إن الإسلام جاء ليبعث الطمأنينة في القلوب لا الرعب، وجاء ليوقظ الأمل لا ليُجهز عليه.
تأمل في واقعنا، نعم فيه ضيق، وغلاء، وتغيرات عالمية تعصف بالجميع، ولكن فيه أيضًا نِعم تُنسينا الألم، وفيه عباد صالحون لا يزالون يُحسنون ويعطون، وفيه رب لا ينام، يراقب ويعلم ويُمهل ولا يُهمل.
فإلى كل من يخوف الناس من المستقبل، نقول له: ارحموا الناس، لا تُطفئوا مصابيح الأمل في قلوبهم، ولا تكونوا أنبياء شؤم، فإن الله لم يكلفكم بإذاعة اليأس، بل بدعوة الخير وبث الرجاء.
ولكل من ضاق صدره وارتجف قلبه خوفًا من الغد، نقول: ردد "لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا"، ولا تجعل خوفك أكبر من يقينك، فإن الله أرحم بك من نفسك، ولن يخذلك أبدًا.
وختامًا…
سيظل هناك دائمًا باب مفتوح في السماء، مهما أوصدت الأبواب في الأرض، وسنظل نؤمن أن الرحمة آتية، وأن الله إن وعد، فلن يُخلف وعده، وإن ضاقت بنا الدنيا بما رحبت، فإن الذي قال: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"، قادرٌ على أن يجعل من بعد الضيق فرجًا، ومن بعد الخوف أمنًا، فثِق بالله… لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.