الإثنين 21 يوليو 2025 11:20 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

شحاته زكريا يكتب : بين مائدة واشنطن وأبواب بكين.. كيف تتوازن القاهرة بذكاء؟

الكاتب الكبير شحاتة زكريا
الكاتب الكبير شحاتة زكريا

في لحظة يتشكل فيها النظام العالمي على نار باردة وتتنازع فيها القوى الكبرى لبناء خرائط النفوذ من جديد اختارت القاهرة أن تكون لاعبا فاعلا لا تابعا وأن تقف على مسافة واحدة من الجميع ، دون أن تكون على الهامش. فبين المائدة الغربية التي تقودها واشنطن والصعود الهادئ الذي تمثله بكين تبني مصر استراتيجية توازن ناعم ، تُراعي فيها مصالحها وتحافظ على استقلال قرارها وترسم لنفسها موقعا لا يُفرض بل يُكتسب بالعقل والحكمة والواقعية.

لم تكن مصر يوما دولة محايدة بالمعنى الباهت للكلمة بل هي تمارس حيادا إيجابيا يتأسس على قاعدة صلبة من المبادئ: لا انحياز دائم ، ولا خصومة مُطلقة بل مصلحة وطنية تُعاد قراءتها عند كل منعطف. ومن هذا المنطلق تُمسك القاهرة بخيوط متوازنة في علاقاتها مع واشنطن وبكين فلا تُغلق أبوابها أمام الاستثمارات الصينية ولا تُدير ظهرها للشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة بل تُجيد اللعب على الحبلين دون أن تسقط في فخ التبعية.

في شراكتها مع أمريكا لا تنطلق مصر من ضعف بل من حضور. فهي دولة ذات وزن إقليمي لا غنى عنه في معادلات الأمن في الشرق الأوسط ، ولاعب محوري في ملفات غزة وليبيا والسودان وركن أساسي في محاربة الإرهاب وتأمين ممرات الطاقة والتجارة الدولية. ومن هنا فإن العلاقة مع واشنطن ليست منحة بل تبادل مصالح وما بين الدعم العسكري والتعاون الاستخباراتي والتفاهمات السياسية تُدير القاهرة علاقتها مع البيت الأبيض بمزيج من الثبات والمرونة.

أما في انفتاحها على الصين فالمسألة أبعد من اقتصاد وأعمق من أرقام. فالصين ليست فقط ثاني أكبر اقتصاد في العالم بل نموذج تنموي بديل ومنظومة لا تشترط مواقف سياسية مقابل الاستثمارات. من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، تنخرط مصر في شراكات ممتدة مع بكين في البنية التحتية، والموانئ والمناطق الاقتصادية بل وفي نقل التكنولوجيا والصناعات المتقدمة كما هو الحال في التعاون بمشروعات العاصمة الإدارية ومصانع الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية.

لكن الذكاء المصري لا يكمن فقط في توزيع الشراكات بل في إدارتها دون تصادم فالقاهرة تعلم أن العالم لا يحتمل الانقسامات الحادة كما في زمن الحرب الباردة وأن الاصطفاف الأعمى لم يعد يُنتج إلا الأزمات. ولذلك فإنها تبني سياسة خارجية متعددة المسارات تتحرك بحرية بين الشرق والغرب وتحتفظ بعلاقات جيدة مع الجميع: من واشنطن إلى بكين، ومن موسكو إلى بروكسل ومن الخليج إلى أفريقيا.

وهذا التوازن لم يكن قرارا ظرفيا بل هو تحول استراتيجي في العقل المصري. فقد باتت الدولة تُدرك أن الاعتماد على محور واحد لا يوفر الحماية بل يُهدد الاستقلال وأن تنويع الشركاء هو درع حقيقي أمام تقلبات العالم وضمانة لتعظيم الفرص. وهكذا لا تتناقض علاقاتها مع أمريكا مع انضمامها إلى تجمع البريكس ولا يتعارض قربها من أوروبا مع شراكاتها الإفريقية المتنامية.

وعلى الجانب الاقتصادي فإن هذا التوازن يُحقق لمصر مزايا متعددة. فبينما توفر واشنطن بوابة إلى التمويلات الدولية، وشبكات التكنولوجيا المتقدمة والأسواق المالية تفتح بكين أمام القاهرة أبوابا واسعة لتمويل البنية التحتية ونقل الخبرات الصناعية وإقامة المشروعات الكبرى دون شروط سياسية ضاغطة. وبين الاثنين تستفيد مصر من المنافسة الدولية على الفرص فتُفاوض من موقع الند لا التبعية.

وفي السياسة نجحت القاهرة في تثبيت صورتها كدولة مسؤولة لا تنزلق خلف الشعارات ، ولا تدخل حروبًا بالوكالة. فهي تُحافظ على علاقات قوية مع أمريكا دون أن تُعادي روسيا وتُطوّر شراكات إستراتيجية مع الصين دون أن تُحرج الغرب. وهذا ما يجعلها محل تقدير دولي نادر في منطقة شديدة التقلّب ويمنحها أوراق ضغط ذكية في الملفات الإقليمية.

ومع التحولات الكبرى في النظام الدولي حيث تتراجع أحادية القطب وتُولد خرائط جديدة للقوة تبدو مصر واحدة من الدول القليلة في العالم التي تُدير علاقاتها ببوصلة المصالح، لا بالإملاءات. وهذا ما يجعل تجربتها نموذجا لدول الجنوب الطامحة إلى استقلال القرار والباحثة عن توازن بين الاقتصاد والسيادة بين التحالفات والهوية.

في النهاية لا تسير القاهرة على خيط رفيع بين واشنطن وبكين بل تنسج نسيجها الخاص ، مستفيدة من كل اتجاه، ومحتفظة بكرامتها الوطنية كاملة. هذا هو التوازن الذكي: لا ممالأة لأحد ولا قطيعة مع أحد بل فن الممكن في أعلى درجاته. وهذا وحده ما يصنع مستقبلا مستقرا وسط عالم مضطرب.

شحاته زكريا :مائدة واشنطن وأبواب بكين.. كيف تتوازن القاهرة بذكاء؟