الأربعاء 30 يوليو 2025 06:04 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الكاتب الكبير عصام بيومي يكتب: نحن والغرب..”التبعية” حبستنا في ”المحلية”!

الكاتب الكبير عصام بيومي
الكاتب الكبير عصام بيومي

كدت أن أخصص مقالي هذا لمناقشة فكر نيكولو مكيافيلي، بصفته أحد "المثقفين العالميين"، الذين أثّروا تأثيرا بالغا في تاريخ العالم ومنطقتنا بالخصوص. وبالفعل سألت ما يسمى الذكاء الصناعي: ماذا لو أن مكيافيلي المفكر الإيطالي، خلال ما يسمى عصر النهضة، عاد إلى الحياة الآن. ووجدت أن الإجابة بشيء من التلخيص والتصرف، هي أنه سيكون فخورا بنفسه للغاية، فعالم "شريعة الغاب"، والاستبداد، و "اللا أخلاق"، الذي تصوره أو نظّرَ له متجسد الآن بكل تفاصيله.
فأغلب مقولات مكيافيلي، المتوفى عام 1527، التي قيل إنها جاءت في شكل نصائح لحاكم جمهورية فلورنسا قبل 500 عام، في كتابه "الأمير"، متحققة بحذافيرها في عالم اليوم: "فرّق تَسُد"، "لا تضع سلاحك أولًا"، "الربح هو الفضيلة الجديدة"، "الهيمنة أهم من العدالة"، "تَظاهَر بالفضيلة، وتصرَف بدهاء"، "الولاء مؤقت" ولا تثق حتى في أقرب مستشاريك"، "الشعب أداة، وليس سيدًا.. أبقِهم مشغولين"، "القوة تُنتزع، لا تُمنح.. والمتردد يخسر."
لكني تذكرت معلومة مهمة لا يعرفها كثيرون، وهي أن أهم نصيحة سياسية مأثورة عن مكيافيلي، "الغاية تبرر الوسيلة"، ليست من نظمه، ولكن يدا خفية طورت كلماته، في وقت ما، لتعطيها زخما أكبر. فبعض "شياطين السياسة" الذين سميتُهم سابقا "أنبياء العصر"، بلوروا هذا المفهوم من مضمون عبارة يقول فيها ".. ينبغي النظر إلى الغاية وليس الوسيلة".
بل إن بعض الخبراء قالوا إن كتابات مكيافيلي، أسيء فهمها، ولم تكن تدعو للاستبداد. وهذا أمر لاحظته مرارا من واقع دراستي للعلوم السياسية، فكثير مما هو منسوب إلى فلاسفة أو مفكرين غربيين، تم إلصاقه بهم. يقول المحْدَثون: "تم العثور على كذا وكذا، من أعمال فلان أو علان من الفلاسفة"، الأقدمين، وحتى بعض المعاصرين، وبالطبع بعد موتهم. وحتى مكيافيلي نفسه، نشرت الصحافة الإيطالية في العام 2019، تقريرا يقول: "اكتشاف مخطوطات يعتقد أنها تعود لمكيافيلي"!
وهنا تتضافر حقائق أخرى لتؤكد التلاعب بالأفكار وبالفلاسفة.
فكتاب "الأمير" نُشر بعد موت مكيافيلي، وثارت شكوك كثيرة حول تعرضه للتحريف. والأهم، أن معظم نظرياته السياسية تمت صياغتها في القرن العشرين بعدما سيطر الصهيوماسون على الجامعات ومراكز البحث بالكامل.
حيث تفنن هؤلاء في تزوير التاريخ، وكتابته بحسب مزاجهم ومصالحهم، لدرجة قد تخيف مكيافيلي نفسه لو عاد اليوم.
يعيدنا هذا إلى موضوع مقالنا السابق، "المثقف العالمي والمثقف المحلي"، لنقرر فكرة مفادها أن استئثار "الغرب" بالتنظير "الفلسفي" ومنه "السياسي" كان وما يزال أمرا مدبرا ومتعمدا ومليئًا بالتلاعب. فمحلية تفكير أغلب المثقفين العرب سببها الأساسي "التبعية" والاستسلام للحصار الإمبريالي بكل أشكاله ومنه الاحتلال الثقافي. وفي هذا تقول خبيرة الإعلام العربية د. عواطف عبدالرحمن في كتابها "قضايا التبعية الثقافية والإعلامية في العالم الثالث"، 1984، إن التطور التكنولوجي جعل دول العالم الثالث سوقا استهلاكية للمنتجات الثقافية للدول الرأسمالية بكل تناقضاتها. وهذا أيضا ما أكده الأمريكي هيربرت شيلر في كتابه "المتلاعبون بالعقول"،1973، بقوله إن فرض التبعية الثقافية والإعلامية على العالم الثالث كان وراءه "جهد أمريكي منظم وواع، بكل الوسائل العسكرية والاقتصادية والإعلامية".
فقد حال "الغرب" طويلا، بتلميعه مقولات فلاسفته وفلسفاته، دون ظهور تألق إبداعات وحِكَم مفكرينا وحكمائنا، وأدى ذلك إلى جعل مثقفيه عالميين، ومثقفينا محليين، مع أن عندنا من التراث ما لو أزيح عنه الغبار، وسوّقْناه تسويقا صحيحا، لملأنا به كتبا ومجلدات تفوق كل ما أنتجه "الغربيون" أو ما قيل إنهم أنتجوه. فكثير من ذلك ألفه محْدَثون، بحسب احيتاجاتهم السياسية، وتمت نسبته لقدماء لإضفاء أهمية ومصداقية أكبر عليه.
هنا يتبين أن روائع الفكر العربي الإسلامي واجهت معوقات عدة. الأولى، أنها لم تجد الاهتمام الكافي، ولا الآلة الإعلامية التي ترفع شأنها، في مواجهة ما يسمى الفلسفة الغربية "المفبركة"، والثانية أن "المجرمين" ولا أقول المفكرين الغربيين سرقوا كثيرا من تلك الروائع ونسبوها إلى أنفسهم إما مباشرة أو بتعديلات، كما بينت في مقال "تشويه التاريخ.. "إعادة الضبط الإسلامية" فرض عين!"،13-11-2024، ومن ذلك مقولات للإمام علي ومعاوية والحسن البصري. وواكب ذلك تحقير أو تهميش كل إسهامات الفكر الإسلامي، لإحداث ذلك الشعور بالدونية لدى المواطن وحتى المثقف العربي المسلم. وثالثة، أن كل ذلك أحبط فكرنا وأوقف نموه.
والراجح أنه لا يوجد كتاب عربي كلاسيكي يناظر الرؤية المكيافيلية المفترضة (الغاية تبرر الوسيلة) بشكل صريح،
لكن هناك نماذج كثيرة في التراث العربي تسبق كثيرا كتاب مكيافيلي وتتحدث في الموضوع ذاته، ومنها سراج الملوك للطرطوشي، والأحكام السلطانية" للماوردي، وتحفة الملوك للغزالي، وكلها في نفس الفترة الزمنية تقريبا. ومنها أيضا، مقدمة ابن خلدون، التي أثبتت الدراسات تأثُر مكيافيلي بها، وبأعمال فكرية عربية أخرى مثل كليلة ودمنة.
العجيب أن هناك فتوى لأبي حنيفة يجيز فيها ما يمكن تسميته "الواقعية السياسية". وفي ذلك قال القرطبي: "وفيه (كذلك كدنا ليوسف) جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولم تهدم أصلاً، خلافًا لأبي حنيفة في تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل". والمعنى أننا نحن أهل الحكمة والسياسة، ويكفي أن "أرطبوننا هزم أرطبونهم" (عمرو بن العاص وأرناط)، عندما كانت المعادلة صحيحة؛ دولة مقابل دولة!.
وبما أننا، في عصر التبعية والحصار، أمام تضخيم متعمد لمفكري الغرب وتهميش وتقزيم لمثقفينا المحليين. فنحن نحتاج "مثقفين عالميين" عربا للعمل على إنهاء هذه التبعية.

عصام بيومي مقالات عصام بيومى نحن والغرب..”التبعية” حبستنا في ”المحلية”! الجارديان المصرية