الإثنين 22 سبتمبر 2025 07:00 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

شحاته زكريا يكتب : الموقف الدولي من العدوان في غزة.. كيف يمكن أن تتغير موازين القوة القانونية والسياسية؟

الكاتب الكبير شحاتة زكريا
الكاتب الكبير شحاتة زكريا

لم يعد ما يحدث في غزة مجرد أزمة إقليمية أو نزاع محصور في جغرافيا ضيقة ، بل أصبح مرآة تعكس طبيعة النظام الدولي ودرجة إنسانيته ، واختبارا حقيقيا لمدى قدرة القانون الدولي على أن يكون إطارا جامعا يحمي المدنيين ويوقف الحروب. العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة لم يخلُ من المأساوية المعتادة التي تتكرر في كل جولة لكنه كشف هذه المرة عن فجوة أعمق بين المبادئ المعلنة للقانون الدولي وبين الواقع الذي تُدار به السياسة العالمية.

إن مشهد الأطفال تحت الأنقاض والمستشفيات التي تُقصف بلا تمييز والمدنيين الذين يُعاملون وكأنهم أهداف عسكرية كل ذلك أطلق موجة من الغضب الشعبي العالمي غير مسبوقة. لم تعد القضية الفلسطينية محصورة في خطاب عربي أو إسلامي بل أصبحت جزءا من ضمير إنساني يعبّر عنه الشارع الأوروبي والأمريكي قبل غيره. وهذا التحول الشعبي يفتح الباب أمام تغيير في ميزان القوى السياسي والقانوني ولو ببطء.

لقد بدا واضحا أن الانحياز الغربي التقليدي لإسرائيل لم يعد يحظى بالإجماع ذاته. صحيح أن بعض العواصم الكبرى لا تزال تبرر العدوان بذريعة "حق الدفاع عن النفس"، لكن الأصوات المعارضة تتزايد في البرلمانات ، وفي الإعلام وفي ساحات المحاكم الدولية. الدعوات لمحاكمة قادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية ، وتزايد استخدام مصطلحات مثل "جرائم حرب" و"تطهير عرقي"، تعكس أن السردية القانونية والسياسية لم تعد ملكا لطرف واحد كما كان الحال لعقود طويلة.

القوة هنا لا تُقاس بالسلاح فقط بل أيضا بالكلمة بالصورة وبالقدرة على كسب الشرعية الأخلاقية. غزة اليوم ليست مجرد ساحة قتال بل ساحة اختبار لإرادة المجتمع الدولي: هل يبقى القانون الدولي مجرد نصوص تُستخدم عند الحاجة أم يتحول إلى قوة مُلزمة تعيد التوازن وتضع حدا لاستخدام القوة المفرطة؟

ومن اللافت أن الموقف العربي هذه المرة جاء أكثر تماسكا مع تحركات سياسية ودبلوماسية متوازية نحو مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ، ومحكمة العدل الدولية. ورغم أن القرارات الأممية كثيرا ما تُجهض بالفيتو أو تظل حبيسة الأدراج إلا أن تراكم هذه الجهود يُعيد تشكيل السردية القانونية ويؤسس لمناخ مختلف يُقيّد قدرة إسرائيل على التمادي دون حساب.

إن التغير الأخطر قد يأتي من داخل الغرب نفسه. حين تتحرك الجامعات وتتعالى أصوات النقابات وتفرض منظمات المجتمع المدني ضغوطا على الحكومات تصبح كلفة الانحياز لإسرائيل أعلى سياسيا وأخلاقيا. وربما لا يحدث التحول فجأة لكن المؤكد أن الرأي العام الدولي لم يعد كما كان وأن صور غزة تعيد صياغة وجدان العالم بطريقة لا يمكن محوها بسهولة.

أما على المستوى السياسي فإن غزة قد تدفع لإعادة النظر في معادلة التحالفات الإقليمية. فمع كل عدوان تتأكد حقيقة أن الأمن في المنطقة لا يمكن أن يتحقق بمعادلات القوة العسكرية وحدها بل بسلام عادل يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني. هذا الإدراك وإن ظل بعيدا عن التنفيذ المباشر إلا أنه يُعيد فتح النقاش حول جدوى السياسات القديمة ويفتح الباب أمام مبادرات أكثر جدية تقودها أطراف إقليمية ودولية تدرك أن استمرار الأزمة يهدد استقرار العالم بأسره.

المستقبل القريب قد يشهد تزايد دور المحاكم الدولية والمنظمات الحقوقية في ملاحقة قادة الحرب وهو ما قد يُغيّر ميزان الردع. فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط بميدان المعركة، بل بقدرة إسرائيل على مواجهة عزلة سياسية وقانونية متنامية بينما يحظى الفلسطينيون بمزيد من الاعتراف والشرعية على مستوى الرأي العام الدولي.

إن الدرس الأهم من هذا العدوان أن موازين القوة ليست ثابتة وأن الشرعية الأخلاقية والقانونية يمكن أن تصبح قوة ضاغطة لا تقل تأثيرًا عن السلاح. ومصر بما لها من ثقل إقليمي ودولي تظل لاعبا أساسيا في هذا التحول سواء من خلال جهودها الإنسانية لوقف إطلاق النار أو عبر تحركاتها السياسية التي تُعيد التذكير بأن الاستقرار الإقليمي لا ينفصل عن حل عادل للقضية الفلسطينية.

في النهاية الموقف الدولي من غزة اليوم قد لا يوقف العدوان غدا لكنه بالتأكيد يزرع بذور تحول قادم في ميزان القوى القانونية والسياسية. فالعدالة قد تتأخر لكنها لا تغيب، والتاريخ كثيرا ما يثبت أن الشعوب التي تنزف اليوم قد تكون هي نفسها التي تُعيد كتابة قواعد اللعبة غدا.

شحاته زكريا الموقف الدولي من العدوان في غزة: كيف يمكن أن تتغير موازين القوة القانونية والسياسية؟ الجارديان المصرية