السبت 1 نوفمبر 2025 03:52 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ هذا العنوان آيــة قرآنية من سورة طــــــه؛ يقول الله: {طه. مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ. إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ. تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى}، افتُتِحت السورة بالحرفين {طــــه}، ويُحتمل أنهما اسم للنبي نُودي به وسُميت به السورة تكريما له، والطاء رمز للطهارة والهاء رمز للهداية، كأن الله يقول له: يا طاهراً من الذنوب وهادياً إلى علام الغيوب، والأرجح أن {طــه} من الحروف المقطعة التي هي سر من أسرار القرآن، ثم كشفت السورة عن هدف من أهداف القرآن، وهو أنه نزل رحمة من الله للنبي، قال تعالى: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْءَانَ لتشقى}، والمراد من الخطاب الإشفاق على النبي من كثرة عبادته؛ فقد ثبت أنه كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل: «أبقِ على نَفسِكَ فإنَّ لها عليْك حَقًّا»، كأن الله يقول له: ليستْ غايتُنا من إنزال القرآن شقاءك، بل هو هدى وشفاء ورحمة لك وللمؤمنين، مدحه الله بقوله: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ}، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}؛ لذا فتلاوة القرآن عبادة نتعبد بها إلى الله، قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، وقال النبي: «اقْرَؤُا القُرْآنَ فإِنَّهُ يَأْتي يَوْم القيامةِ شَفِيعاً لأصْحابِهِ».
ــ ويحتمل أن المراد من قوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْءَانَ لتشقى} الإشفاق على النبي من شدة أسفه وحزنه على كفر قومه، فكأن الله يقول له: يا محمد لا تشُقَّ على نفسك ولا تعذبها بالأسف على كفر قومك، فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكِّر به، (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، {وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ}، فما عليك إلا البلاغ {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، وهذا المعنى أكده ربنا في قوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، ويحتمل أن المراد بالخطاب طمأنة النبي بأنه لن يبقى دائما تحت ذُلِّ المشركين في مكة، بل سيظهر أمره ويعلو قدْره، فيكون المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيًّا فيما بينهم، بل لتصير معظَّما مكرَّما عاليا.
ــ ويؤخذ من الخطاب أن الإسلام دين رحمة ويُسر ورفق، وهو ما أكدته نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، و{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقول النبي: «إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق»، «بَشِّروا وَلا تُنفِّروا، ويَسِّروا وَلا تُعسِّروا»، و«إذا أمرتُكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم»، وهل هناك يُسر أعظم من أن يُقيِّـد الله طاعته بالاستطاعة قائلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}؛ وذلك لأن الاستطاعة مناط التكليف، والمشقة تجلب التيسير، فالتكليف مشروط بالقدرة، هذا هو إسلامنا الذي اصطفاه ربنا فقال عنه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، فأجمل به دينا! وأعظم به منهجا!
ـــ ثم قال تعالى: {إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يخشى}، (إلا) بمعنى (لكن) فالاستثناء منقطع، وخُـصَّ من يخشى بالتذكرة؛ لأنهم هم المنتفعون بها، والخَشية هي التي تَحُول بينهم وبين معصية الله، لكن من الذين تنفعهم الذكرى؟ ومن الذين يخشون ربهم؟ الذين تنفعهم الذكرى هم المؤمنون الذين تلين قلوبهم وتطمئن بذكر الله، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، والذين يخشون ربهم هم العلماء وفقا لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، والمراد أن أكثر الناس خَشْية لله هم العلماء العارفون بالله وحدوده حق المعرفة؛ لأنه كلما كانت المعرفة بالله أتـــمّ وأكمل كانت الخَشية منه أعظم وأكثر؛ والمعرفة بالله تقتضي الإيمان به والخشية منه.
ــ ثم وصف ربنا القرآن بقوله: {تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} أي نُزِّل تنزيلا من خالق الأرض والسموات، وهنا التفات بلاغي من ضمير التكلُّم في الآيات السابقة إلى ضمير الغيبة في هذه الآية لشدِّ انتباه المتلقي، وتخصيص القرآن بصفة خلق السماوات والأرض تأكيد على أنه كتاب سماوي؛ لأن الإله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق غيرهما وقادر على إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو أحـق بالألوهية والعبودية، فلِمَ الكفر والجحود؟ وقُـدِّم خلق الأرض؛ لأنه مقدَّم في الوجود على خلق السماوات وفقا لقوله تعالى: {هُــوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، لكن قُــدِّم خلق السماوات على خلق الأرض في مواضع أخرى كثيرة؛ لأنها الأشرف خَلْقا، وتقديم الأشرف أولى؛ لذا ساقها الله دليلا على قدرته المطلقة؛ فقال تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}، ويحتمل أن التقديم والتأخير بين السماوات والأرض راجع إلى السياق، فالحديث هنا عن التنزيل إلى الأرض، فناسب ذلك تقديم {الأَرْضِ}، ويحتمل أن تأخير السموات جاء لمراعاة موسيقى الفواصل بين الآيات، و{العُلَى} جمع (العُلْيَا) تأنيث (الأَعْلَى)، ووصف السماوات بـ{العلى} دلالة على عِظَم قدرة الخالق وتأكيد الفخامة في الخلق.

دكتور علاء الحمزاوى مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ: الجارديان المصرية الجارديان المصرية