الإثنين 14 يوليو 2025 04:18 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د.احمد يوسف يكتب: الثقافة وخطاب التنوير

دكتور احمد يوسف
دكتور احمد يوسف

الثقافة هي الوجه الإنساني من العالم الطبيعي، فإذا كان هذا العالم يزودنا بالمواد الأولية، فإن الثقافة هي التي تحدد أسلوب استثمار تلك المواد لخدمة مطالبنا. أي أنها هي التي ترسم الخطة التي يزاول بها الإنسان فاعلياته فكرا وسلوكا في صميم عالمه وبيئته. فهي أسلوب الحياة الذي ينطوي على معتقدات وعادات ومهارات، ويتضمن البواعث والأهداف التي تحث الفرد والجماعة على المشاركة في إنشاء النظم والمؤسسات المادية والروحية، كما تحمل في باطنها المباديء والقيم والمقاييس التي تقدر بموجبها تلك الأساليب والنظم الثقافية نفسها ويحكم عليها. وتصاغ الثقافة من مجموع جوانب فاعلية الإنسان على نحو ما يفصح عنها في دينه وفلسفته وفنه وعلمه ومن قبل ذلك في لغته وأساطيره وسحره وكما تتجسد في نظمه وتقنيناته. والمثقف الحق هو من يتبنى قيم التنوير ويدافع عنها وهي قيمة العقل والعلم والحرية التي تنطوي عليها الثقافة الفاعلة
خرجت أوربا من ظلمات العصور الوسطى إلى أنوار العصر الحديث بما سمي "حركة التنوير" التي اعتمدت العقل والعلم والحرية. والاعتماد على العقل يعني استبعاد الخرافة والغيبيات وتأكيد قدرته على اكتشاف قوانين الطبيعة واكتشاف قوانين المجتمع ولذلك ازدهر علم الطبيعة مقرونا بازدهار علم الاجتماع بما يعني تكامل الوجود البشري في مجتمع لا ينفصل عن محيطه الطبيعي. وفي إطار ذلك تأكدت قيمة الحرية على اعتبار أنه لا سقف للعلم ولا سقف للحرية ولا سقف للنقد. وكي يتحقق كل ذلك أكد الأوروبيون حق الخطأ بوصفه اجتهادا لا يخضع صاحبه للعقاب أو المساءلة أو التضييق عليه في حياته العامة أو حياته الخاصة، كما أكدوا حق الاختلاف مهما يكن الإجماع. فنقد الإجماع هو سعبي لإيجاد إجماع جديد لن يبنى في يوم وليلة أو ما بين عشية وضحاها.
ولم تكن حركة التنوير في أوروبا بدعة حضارية ولكنها سنة متبعة وحق مصون تعيه الأمم التي حققت نهضتها قبل أوروبا وتسعى لتحقيق نهضتها مع أوروبا وبعدها. وقد رأينا هذه السنة الحية في الحضارة المصرية القديمة التي بدأت فتية عصية على التجمد والجمود فحققت كل منجزاتها في العلم والبناء والتشييد والفكر والاجتماع. وكذا فعلت الحضارة العربية في إبان فتوتها ونهضتها السامقة حين عظمت العقل وأسست النقد ورسخت قيم الاختلاف والتسامح بامتزاج الثقافات والأعراق واحترام العقائد والأديان. وقد شهدت مصر أنوار العقل، وتجليات الفنون، واستشراف آفاق الحرية منذ مطلع نهضتها في القرن التاسع عشر على أيدي رواد تتابعوا جيلا وراء جيل، كان أولهم رفاعة ولم يكن آخرهم طه حسين.
وقد تجلت ثمار هذا التنوير في مسارات القوى الناعمة من الفكر والفن والسياسة وفي مسار العلم. ولم ينفصل خطاب التنوير عن الخطاب العام في مصر، فقد توازى هذا الخطاب مع الخطاب السياسي في السعي إلى الدستور والديمقراطية، ومع الخطاب الديني عند محمد عبده، ومع الخطاب الاقتصادي عند طلعت حرب، ومع الخطاب الأدبي والفني عند رموزه المعروفين.
وقد ارتكن خطاب التنوير إلى مبدأ الحرية ومبدأ النقد فهما عماد كل إبداع رأيناه في نواحي الحياة في مصر. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون أبناء الطبقة المتوسطة هم حملة هذه الشعلة، تلك الطبقة التي ازدهرت وشقت طريقها بالعلم والتدين المستنير. وهذه الطبقة مثل العملة لها وجهان وجه محافظ ووجه مبدع مجدد، يزدهر أي منهما بازدهار النقد في مناخ الحرية بكل ألوانها. وما حدث أن هذه الطبقة تآكلت وتراجع دورها بتآكل وتراجع قيمة الحرية ومقاومة العقل بالخرافة وساد خطاب أحادي هو ما سمى بالخطاب الديني وهو خطاب بشري في الحقيقة، ولكن أصحابه جعلوه دينا وأسبغوا على فكرهم ما للدين من قداسة، فتحول هذا الخطاب إلى أيديولوجيا غير قابلة للنقد وغير قابلة للاختلاف معها وغير معترفة بحق الخطأ ولا معترفة بحق العقل في النقد والاختلاف ومن يختلف معها يختلف مع الدين ويكون مرتدا. أضف إلى هذا تشرذم أهل الخطاب التنويري في جحور فكرية إما من الماضي البعيد أو من تراث الآخرين المعاصرين لنا. والمثقف الحق هو منتج الفكر والفن وحارس قيم العقل والحرية والعلم، وطريق الخلاص هو الطريق الذي سلكته كل الأمم وأشرنا إليه في صدر حديثنا هذا

د.احمد يوسف الثقافة وخطاب التنوير الجارديان المصرية