محمد سعد عبد اللطيف يكتب : بين الشك والصندوق: المزاج الشعبي في زمن الانتخابات.،،..


في كل دورة انتخابية، تعود الأسطوانة نفسها، بنفس الإيقاع الباهت، ونفس الشعارات التي غطّاها الغبار. تتزين الجدران بالملصقات، وتُطلق الوعود في الهواء، كأنها أعراس موسمية يُراد بها التجميل لا التغيير، فيقف المواطن البسيط حائرًا بين شاشات تصرخ بالحديث عن "الواجب الوطني"، وواقع لا يعرف فيه غير الشعور بالتعب، والخذلان، واللامبالاة.
إنّ المواطن العادي، الذي يخرج صباحًا يبحث عن قوت يومه، لم يعُد ينظر إلى الصندوق الانتخابي كأداة خلاص أو تغيير، بل بات يراه صناديق متشابهة في الشكل والمضمون، تعيد إنتاج المشهد ذاته بوجوه جديدة أو قديمة. لقد أصبح الاستحقاق الانتخابي عنده موسمًا للوعود المؤقتة والزيارات المفاجئة، لا لحظةً ديمقراطية يشارك فيها لبناء مستقبلٍ يخصه.
وأنا أكتب هذه السطور، لا أكتب ككاتب أو باحث، بل كواحد من الناس. أكتب من واقعٍ أعرفه، من ضميرٍ أثقله الهم العام، ومن قلبٍ يسكنه صدى وجع طبقة واسعة من أبناء هذا الشعب، من عمال وفلاحين، ومعلمين ومهنيين، وموظفين بسطاء، ومهمّشين لا يظهرون في الشاشات ولا يُسألون عن رأيهم. أكتب بما أمليه على نفسي حين أجلس مع من يُشبهونني، لا حين أُنظر من منصة. أكتب لأن الصمت صار جريمة في حق الفكرة، وفي حق البلد.
ونحن على أعتاب انتخابات مجلس الشيوخ، أجد لزامًا عليّ الحديث عن واقع ملموس في دائرتي الانتخابية، التي هي جزء من الدائرة الكبرى على مستوى القائمة، والدائرة الصغرى على مستوى الفردي. وللمرة الثانية، لا نجد من يُمثل مركز المنصورة – لا في القائمة، ولا في الفردي. بينما نجد أنفسنا أمام مرشحين لا نعرف عنهم شيئًا، لا أسماءهم، ولا وجوههم، ولا إن كانوا قد ساروا يومًا في طريق ريفي يعاني من انقطاع المياه أو انهيار الخدمات. هذه الفجوة العميقة بين الناخب والمُرشح، تعكس هشاشة شديدة في آلية الاختيار والترشيح، وتطرح سؤالًا مريرًا: كيف يُنتخب من لا يعرف الناس ولا يعرفونه؟ وكيف يُطالب المواطن بالثقة، وهو لا يرى أحدًا يلجأ إليه أو يحمل همّه؟ لقد فقد المواطن عنوانه، ولم يعُد يثق في أحد.
ولم يتبقَ عن موعد الانتخابات سوى أيام تُعد على أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك لم يظهر لنا مرشح واحد في دائرتنا من مرشحي الشيوخ، ولم نرَ زيارة واحدة يستمع فيها أحد منهم إلى صوت الجماهير أو يطرق باب فلاح من أهلنا البسطاء ليسمع شكواه. تلك الفئة التي طالما قيل إنها "العمود الفقري" للوطن، تُركت لمصيرها تواجه وحيدة موجةً من المخالفات الزراعية، وتغليظ العقوبات، حتى أصبح سجن الفلاح على مشارف كل موسم، لا لشيء سوى أنه زرع ما اعتاد عليه أجداده. الأسمدة شحيحة، والفدان لا يجد كفايته، والسوق السوداء باتت مرجعية الدولة غير المعلنة. إننا أمام طبقة جُرّدت من التمثيل، كما جُرّدت من الأمل، طبقةٌ وصفها طه حسين يومًا في "المعذبون في الأرض"، وما زال السؤال معلقًا: من يوصل صوت هؤلاء؟ من يَحل مشاكلهم؟ من يسمع صوت البهائم في إسطبلاتهم حين لا تجد العلف، وصوت النساء اللواتي يدبّرن شؤون بيوتهن بين الحقل والزريبة؟ أليست الزراعة وتربية الحيوان هي ما تبقّى من أعمدة هذا الاقتصاد؟ فلماذا هذا الإقصاء؟
وفي خضم هذا المشهد، برزت ظاهرة لافتة تُعمق من فقدان الثقة، وتزيد من توتر الأجواء العامة، وهي كثافة أعداد المرشحين في الانتخابات القادمة نهاية العام لمجلس النواب، حيث تجاوز عددهم في بعض المناطق الخمسين مرشحًا، وفي بعض القرى الصغيرة – كقريتنا على سبيل المثال – يترشح ستة أشخاص أو أكثر، جميعهم من ذات النسيج الاجتماعي. هذه الظاهرة، بدلًا من أن تعكس حيوية ديمقراطية، باتت مصدرًا لانقسام داخلي حاد، تفرز خصومات حادة، وتُزعزع العلاقات العائلية والقرابية، وتفتح الباب أمام صراعات كامنة، وكأننا نعيش فصلاً من التنافس الانفعالي لا من الحوار السياسي.
هذه الحالة المزاجية ليست عبثًا، بل نتيجة تراكمات من فقدان الثقة، وتشوه القيم، وتبدّل الأدوار. فحين يرى المواطن أن الفقر يتمدد، وأن الخدمات تذوي، وأن الأحاديث عن "الوطن" و"الواجب" تُستعمل لمآرب شخصية، لا بد أن تتزعزع قناعاته، ويختلط عليه الصواب بالخطأ، ويتحول الحياد إلى عزوف، أو إلى سخرية حزينة ممن يطلبون صوته.
ووسط هذه الفوضى، يفتقد المواطن إلى صوتٍ صادقٍ يُشبهه، وإلى أمل حقيقي لا يتكئ على خطاب خشبي أو وعود زائفة. هو بحاجة إلى من يشعر به، لا من يخطب فوقه. إلى من يربط السياسة بالعيش، لا من يختزلها في اللافتات والتصريحات.
في لحظة كهذه، يصبح بناء الوعي الذاتي لكل فرد ضرورةً وطنية. أن يُدرك المواطن دوره، وأن يعرف من يُخاطب عقله، لا غرائزه. أن يفتش عن معيارين لا ثالث لهما: الصواب والإخلاص، وأن يسأل نفسه قبل الإدلاء بصوته: هل هذا المرشح يملك حقًا مشروعًا يخدمني كمواطن؟ وهل ما يقوله قابل للتحقق في واقعنا لا في الخيال؟
فلا وطن ينهض حين يشارك الناس مجبرين أو لا مبالين، ولا مجتمع يصحّ إذا غابت الشفافية عن قراراته. ولا يمكن لإنسان أن يشعر بالسعادة والكرامة، وهو يرى من حوله يغرق في الفقر والمرض والتهميش، مهما كان ما يملكه من مال أو علم أو صحة.
تبقى الانتخابات فرصة، لكنها ليست معجزة. والتغيير الحقيقي لا يبدأ من صندوق، بل من يقظة ضمير، وشراكة واعية بين الحاكم والمحكوم، بين الناخب والمُنتخب، وبين الفرد والمجموع. فقط حين نؤمن أن المصلحة العامة هي البوصلة، يمكن أن نخرج من هذا النفق إلى ضوء يستحقنا.