محمد خليفة يكتب: العلماء المسلمين القدامى يتهمون بعضهم بالكفر والزندقة !


السؤال يتكرر عند البعض كلما جاء الحديث عن دور علماء المسلمين في بناء الحضارة الإنسانية، فإذا ذُكر جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وابن سينا والخوارزمى، قيل هؤلاء العلماء على خلاف تعاليم الإسلام وبسبب جنوحهم عن الدين تم تكفيرهم، فكيف نعتز ونفتخر بدورهم الحضارى والعلمي وهم قد وصفوا بالكفر والزندقة؟!
هذه الدعوى التي كثيراً ما يرددها كتّاب ومثقفون تحتاج إلى مناقشة علمية وفحص منهجى للتأكد من صحتها، فالربط بين التقدم العلمى في العلوم الطبيعية والكفر والزندقة اصبح شائعاً بين جنبات الكثيرين فى هذا الزمن ، والخطير أنَّ هؤلاء يرمون علماء الإسلام بالكفر ،وكأنّ فى أيديهم مفاتيح الجنّةَ والنار!
شاع نقد واتهام من ذكرتُهم فى هذا البحث من علماء الطب والفلك والحساب، ليس لأجل تخصصهم العلمى، بل لأجل دخولهم في علم الكلام والفلسفة الذي كان بوابة الكثير من الخلاف وتبادل التهم بينهم وبين أقرانهم من العلماء في الفترة من القرن الثالث حتى التاسع الهجرى فى شكل ظاهر.
فابن سينا على سبيل المثال، لو رجعنا إلى ترجمته في كتب التراجم السُنية لوجدنا أنصافاً له، فمع الشدة التي وجدها من مخالفيه في المسائل العقائدية، إلا أنهم أثنوا عليه وذكروا أنَّه صاحب دين، يختم القرآن كل ثلاث ايام ، وقد مات يوم الجمعة فى رمضان سنة 428هجرية، "انظر: سير أعلام النبلاء للذهبى ج ال17/531"، ووفيات الأعيان لابن خلكان 2/197"، ومن كفَّره كالغزالى فقد كان بسبب مقولات عقدية، والتكفير هنا على أساس القول، وأما إسقاطه على القائل فلذلك شروط لا بد من توافرها وموانع لا بد من انتفائها عن القائل، وهذا معلوم ومعروف في حكم التكفير كما تذكره كتب العقائد، والمهم هنا أن ابن سينا كان مرجعاً يشهد له الموافقون والمخالفون بإمامته في الطب والمنطق، وهذا ما جعل كتبه الطبية كالشفاء والقانون تحظى بالانتشار فى كثير من البلدان والأزمان ومن جميع الأطياف.
وما حدث لبعض علماء الحساب والطب والفلسفة من تكفير ورمى بالزندقة، كان أيضاً شائعاً بين القرناء والفرقاء من أصحاب المذاهب الفقهية والعقدية، فالخلافات الكلامية جعلت هناك أمراً مقصوداً فى تجريد المخالف من السنّة أو إخراجه من الإسلام، وهذا ما جعل كتب العقائد تتكاثر وتنمو فى رسم صفات المعتقد الناجى من الفرق الهالكة، فكما أن أهل الحديث وربما بعض الحنابلة مارسوا تكفير بعض المخالفين نتيجة مسائل كلامية متعلقة بالإلهيات والنبوات واليوم الآخر، فكذلك مورس على الإمام أحمد والطبرى والغزالى نفسه الذى اتهم بعض العلماء بالكفر اتهمه الفقهاء بالزندقة ، كما اتهموا ابن تيمية بالكفر والإبعاد عن دين الله وأحياناً عذبوهم وسجنوهم ، وقد نقل ابن حجر عن ابن مخلوف المالكى أنّه قال عن ابن تيمية «يجب التضييق عليه إن لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره» "الدرر الكامنة 1/46" ، فهذه شناعة وبشاعة فى الخصومة، كما أنها حدثت لبعض علماء الطبيعيات فكذلك حدثت لأهل السنّة وعلماء الحديث، وقصر الاتهام بالزندقة على أمثال الأئمة "الكندى وجابر بن حيان والرازى بسبب ميولهم العلمية !
ومن يتأمل تراجم علماء الأئمة الأطباء والفلكيين والجغرافيين وغيرهم، يجد ثراءً عددياً واسعاً وكثرة منهم متوزعين في جميع الأقاليم وعلى مر العصور، فالأمة التى أخرجت أولئك العلماء لا يُتصور منها محاربتهم بسبب علومهم أو اتهامهم بالزندقة، يكفى للتأكد من صحة هذه العناية الإسلامية بهم، تلك المراجع التى تدوّن سيرهم وتراجمهم العظيمة، ومنها على سبيل المثل كتاب «تراجم الأطباء والحكماء»، لابن جلجل الأندلسى ("377هـ - 987م) وكتاب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبى أصيبعة "ت 668هـ - 1270م" وكتاب «روض الألباء في أخبار الأطباء» لابن الأكفانى "ت 749 هـ - 1348م" بخلاف التراجم الأكثر لطبقات الفقهاء والمحدثين الذين كانوا مع علومهم الشرعية يتقنون ببراعة علوم الفلك والحساب والطب والهندسة، وكانوا ينصّون عليها في تراجمهم كأهم أعمالهم وفيها بعض مؤلفاتهم، كما هو مشهور عن بعض الفقهاء كابن رشد والقرافى والمازرى معرفتهم الواسعة في الطب والحساب والهندسة، ومثلهم ابن النفيس المشهور بالطب والمشتغل بالفقه وأصوله، وكذا الخوارزمى المشهور بالجبر. ، حيث قال في بداية كتابه للجبر «ألَّفْتُ من كتاب الجبر والمقابلة كتاباً مُخْتَصَراً، حاصراً للطيف الحساب وجليله، لِمَا يَلْزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم، وفي مُقاسماتهم وأحكامهم وتجاراتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأراضي وكَرْي الأنهار والهندسة، وغير ذلك من وجوهه وفنونه، مُقدِّماً لحُسْن النية فيه، راجياً لأن يُنْزِله أهل الأدب بفضل ما استودعوا من نِعَم الله تبارك وتعالى وجليل آلائه وجميل بلائه عندهم منزلتَه، وبالله توفيقى في هذا وغيره، عليه توكَّلْتُ وهو رب العَرْش العظيم» "انظرترجمته للدكتور على الدفاع، المنشورة فى مجلة البحوث الإسلامية 5/171 – 174". فالتخصص العلمى الطبيعي كان متداخلاً مع الفقه والحديث، وفكرة الفصل بينها جاءت متأخرة، ربما بعد انتشار الجامعات وفق التصور الغربى لها، فهل يعد هؤلاء العلماء المسلمين كفاراً كما يصفهم المتشددون ؟ّ!
فاتهام العلماء بالكفر والزندقة فكرة فيها الكثير من التجنى والجهل. ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل