الخميس 19 يونيو 2025 07:03 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

عصام شوقى يكتب : من نغم ذكريات إلى لغم المهرجانات ..

عصام شوقى
عصام شوقى

الفن هو القوة الناعمة التي تشكل الثقافات وتغذي الوجدان وترقى بمستوى الذوق العام ،
على مدار عقود كان الفن راقي في مجمله يحترم عقل المشاهد .
لن أتحدث هنا عن الشاشة الفضية وما قدمته من أعمال خالدة مازلنا ننهل من نبعها حتى الآن ، ولكني هنا بصدد الحديث عن فن الغناء في فترة ما قبل السبعينيات .
هنا استعرض بعض من فيض الأغاني التي خاطبت الوجدان والعقل ،
فشدت كوكب الشرق أم كلثوم بأغنية (ذكريات) تقول كلماتها :
ذكرياتٌ داعبَتْ فِكري وظنِّي
لستُ أدري أيُّها أقربُ مِنِّي
هِىَ فى سَمْعِي على طُولِ المَدى
نَغَمٌ ينسابُ فى لَحَنٍ أغنِّ
بينَ شدوٍ وحنينْ وبكاءٍ وأنينْ
كيفَ أنساها وسمْعي
لمْ يزَلْ يذكرُ دمعِي .
كلمات راقية جميلة فيها تشبيه للذكريات بشخص يداعب شخوص آخرون هما الفكر والظن وتشبيه الذكريات بنغم ينساب كما النهر المتدفق ،
كلمات جميلة فيها التشبيه والكناية مما يؤدي إلى إعمال العقل والرقي بالفكر والوجدان .
(رباعيات الخيام) هي درة التاج شدت بها كوكب الشرق السيدة أم كلثوم تقول :
إن لم أكن اخلصـــت فى طاعتك
فإننى أطمع فى رحمتك
وانمـا يشـــــفع لى اننى قد
عـــــشت لا أشرك فى وحدتك
تخفى عن الـناس سنى طلعتك
وكل ما فى الـكون من صنعتك .
يا جمال الإبداع في طلب الرحمة من المولي عز وجل رغم عدم الإخلاص في الطاعة ،
هي دعوة لعدم القنوط من رحمة الله والتمسك بأمل العفو والمغفرة ،
هي دعوة لتهذيب النفس من الآثام واللجوء الله قابل التوبة بعظيم رحمته .
وإذا ما بحثنا في كنوز الدرر لعثرنا على لؤلؤة ثمينة في أغنية (لا تكذبي) للراحل العظيم محمد عبدالوهاب تقول :
لا لا لا تكذبي إني رأيتكما معا
ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى
من عين كاذبة فأنكر وأدعى وأدعى
إني رأيتكما .. إني سمعتكما ..
عيناك في عينيه .. في شفتيه .. في كفيه .. في قدميه
ويداك ضارعتان ..
ترتعشان من لهف عليه
تتحديان الشوق بالقبلات تلذعني بسوط من لهيب
بالهمس ، باللمس
بالآهات ، بالنظرات ، باللفتات
بالصمت الرهيب .
ويختم دون غليل وبسمو الفرسان فيقول :
كوني كما تبغين لكن لن تكوني
فأنا صنعتك من هواي ، ومن جنوني
ولقد برئت من الهوى ومن الجنون .
رغم رؤيته لخيانة الحبيبة ولكنه لم يتجاوز ولم يغل و اطفئت الكلمات الرصينة نيران الغل والحزن والندم في إبداع جميل يؤثر في وجدان المتلقي .
وحين يعاني الحبيب تجاهل المحبوب تكون لوعة الحرمان رياح تطفئ سراج الأمل في تحفة غنائية شدت بها (نجاة الصغيرة) بصوتها الدفء في اغنية (ساكن قصادي) حين قالت :
ساكن قصادي ... وبحبه ... وأتمنى اقابله
فكرت أصارحه ... لكن أبدا مأقدرش أقوله
وفضلت استنى الايام فى معاد مايسهر ومعاد ما يرجع
كل خطوة أرسم احلام تكبر ف قلبي والقلب يطمع .
وبعد فقدان الأمل بزواج الحبيب تقول الكلمات :
بعد الليله دي خلاص بقى غيري أولى بيه
وتهـت وسـط الزحـام مـا حـد حاسس بي .
مأساة القلب الحزين الذي نبض بحلم لم يتحقق ، ومأساة عيون كانت تتابع خطى الحبيب على الدروب فإذ هي تعاني الحرمان من وتقرر الإنسحاب في صمت كما كانت تفيض المشاعر في صمت ،
كلمات تدعو للسمو وإنكار الذات و الإبحار في بحر النسيان بزورق الإيثار .
غنى عبدالحليم حافظ (على التوته والساقية) تقول كلماتها :
الله .. الله .. الله
يا خالق الزهره في حضن الجبل من فوق
لونها ومنظرها ايه للجمال والذوق
تطلع وتدبل على دمع الأمل والشوق
لا يدرى بيها ولا يعلمها غير الله
سبحانك .. سبحانك .. يا ربي سبحانك .
كلمات تحمل الدعوة في التأمل في صنع الله والتسليم بأن حياة الإنسان كما الزهرة تزهر وتذبل ما بين الأمل في الله والشوق إليه .
الإنشاد الديني كان كان يزهو في عقود ما قبل السبعينيات والأجدر بالذكر هنا درة التاج (مولاي) التي شدى بها (النقشبندي) تقول كلماتها :
مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي
مَن لي ألوذ به ألاك يا سَندي؟
أقُوم بالليّل و الأسّحار سَاهيةٌ
أدّعُو و هَمّسُ دعائي
بالدموع نَدى
بنُور وجهك إني عائد و جل
ومن يعد بك لَن يَشّقى إلى الأبد
مَهما لقيت من الدُنيا و عَارضها
فَأنّتَ لي شغل عمّا يَرى جَسدي
تَحّلو مرارة عيش رضاك
و مَا أطيق سخطاَ على عيش من الرغد .
وكفى القول بأن مرارة العيش تحلو وتزول مرارتها برضى المولى عز وجل ،
دعوة للجوء لله والتذرع به سبحانه فمن يتذرع به سبحانه لا يشقى أبدا .
في حقبة ما قبل السبعينيات كان الفن يخاطب الدين والفكر والوجدان و الوطنية وهنا وردة البستان التي خاطبت وجدان الشعوب العربية وداعبت أمل الوحدة نشيد (الوطن الأكبر) وشدى به قمم الغناء وقتها عبدالحليم حافظ وشادية وصباح و وردة الجزائرية و غيرهم تقول كلماته :
وطني حبيبي الوطن الأكبر
يوم ورا يوم أمجاده بتكبر
وانتصارتة مالية حياته
وطني بيكبر وبيتحرر
وطني وطني
وطني يا مالى بحبك قلبى
وطني يا وطن الشعب العربى
يالى ناديت بالوحدة الكبرى
بعد ما شفت جمال الثورة
انت كبير كبير كبير
من الوجود كله من الخلود كله
يا وطني
حلو يا مجد يا مالى قلوبنا
حلو يا نصر يا كاسى رايتنا
حلوة يا وحدة يا جامعة شعوبنا
حلوة يا أحلى نغم فى حياتنا
يا نغم سارى بين المحيطين
بين مراكش والبحرين
فى اليمن ودمشق وجدة
نفس الغنوة لأجمل وحدة
وحدة كل الشعب العربى .
غنى العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ حدوتة على المسرح بأسلوب شيق يحمل الإبداع في أغنية (فاتت جانبنا) فيقول :
فاتت جنبنا أنا وهوه وضحكت لنا أنا وهوه
رديت وكمان رديت وفضلت أرد لحد ما فاتت
ونسيت روحي وصحيت أتاريها خذت الشمس وغابت .
ويعود ليصف موقف في حدوتته حين رأى محبوبته وهو يسير برفقة صديقه :
مرة ثانية برضه صدفة كنت أنا وهو في طريقنا
شفنا خطوة حلو جاية وضل تالت بيسابقنا
التفت لقيتها هيه حاجة مش معقولة هيه هيه
وابتديت أسمع في قلبي لحن حب جديد عليَّ
بصيت لصاحبي لقيته جنبي وما هوش جنبي
عايز يقول كلمة اتقالت جوه في قلبي
كنت عايز أسأله هو كمان حس بيها وانشغل هو كمان .
وبعد حيرة ولوعة يقرر مراسلتها فيقول :
والليالي دوبتني وشيبت فكري وظنوني
لما طيف الغيرة شوفته بيترسم قدام عيوني
إن لقيت صاحبي بيضحك أقول دي لازم قابلته
وإن لمحت في عينه شكوى أقول دي لازم خاصمته
ما لقتش طريق قدامي يرحمني من العذاب
غير إني أدور وأسال وأعرف منها الجواب
وعرفت طريقها عرفته وشقيت على بال ما عرفته
وبعتلها كلمتين مش أكتر من سطرين
قلت لها ريحيني قولي لي أنا فين
وجاني الرد جاني لقيتها بتستناني وقالت لي أنا من الأول
بضحك لك يا أسمراني
أنا أنا أيوه أنا أنا أنا مش هوه .
إبداع جميل في أسلوب شيق بسيط يجعلك من البداية مشدود لمعرفة نهاية هذه الحدوتة الجميلة الممتعة في كلماتها وطريقة سردها .
وحين حمل الفنان الجميل عبدالمطلب لواء الغناء الشعبي كانت الكلمات جميلة في بساطتها ممتعة في معانيها كما في أغنية (ساكن في حي السيدة) فتقول :
ساكن فى حي السيدة
وحبيبي ساكن فى الحسين
وعشان أنول كل الرضا
يوماتي أروح له مرتين
من السيدة لسيدنا الحسين .
تجسيد لعاشق يجوب الدروب لرؤية محبوبته في كنف العامية الجميلة المحترمة .
وعلى نفس المنوال غنى عبدالعزيز محمود تحفته الفنية (تاكسي الغرام) فقال :
يا تاكسي الغرام يا مقرب البعيد
يامسابق الحمام والسكة الحديد
لا لك جناحين ولا موتورين
يا تاكسى الغرام يا تاكسي الغرام .
وعلى درب الرقي بالمشاعر في الغناء الشعبي غنى كارم محمود (على شط بحر الهوى) فقال :
على شط بحر الهوى رسيِتْ مراكبنا
والشوق جمعنا سوى إحنا وحبايبنا .
ومن عبق الفن الشعبي الأصيل يأتي أسلوب وأغنية محمد قنديل (ياحلو صبح) :
يا حلو صبح .. يا حلو طل
يا حلو صبح .. نهارنا فل
من قد إيه و انا بستناك
وعيني ع الباب و الشباك
عشان اقول لك و اترجاك
ياحلو
وعلى النهج ذاته كان الجميع ومنهم محمد رشدي ومن أغانيه (ميتى أشوفك) التي يقول في جزء منها :
ميتى أشوفك يا غايب عن عيني
وحشاني عيونك والله
وفراقك على عيني
يا مطول ليلي في بعدك
على برك رسيني
عطشان والنظرة الواحدة
في عيونك ترويني .
هكذا كان الحال إلى أن طل علينا إقتصاد وثقافة الإنفتاح (الرأس مالي المتوحش) في السبعينيات وكنت الباكورة (مدرسة المشاغبين) وما تلاها من أفلام العنف والمخدرات حتى أن وقتها كان السواد الأعظم ينتقد ظاهرة (أحمد عدوية) .
حتى وصل بنا الحال بعد أربعة عقود من الفساد أن أصبح (شعبان عبدالرحيم) نجم مجتمع و(سعد الصغير) نجم الفضائيات !!
وظهرت أغاني غريبة على مجتمعنا نوع من الغناء حمل لواءه بعد الراقصين مثل (سعد الصغير) الذي غنى (بحبك يا حمار) :
خلاويص .. لسه
بحبك يا حمار
ولعلمك يا حمار
ده انا بزعل اوي لما
حد يقولك يا حمار
يا عم الحمير كلهم
عليا الطرب عمهم
لابس حزام بدل اللجام .
ولم يكتفي هذا (الصغير) بالغناء للحمار فغني للحنطور فقال :
عم يااااااعم
يا عم يبتاع الحنطور يمحنطر
هييس حاضر
ياما نفسي اركب الحنطور واتحنطر
شييييييي
واركب الحنطور
ترجن ترجن
واتحنطر
واقعد قدام واشد اللجام
واركب الحنطور واتحنطر .
ولأن الفساد نما وترعرع طوال أربعون عاما فتواجدت له أرض خصبة تنمو فيها جميع الموبقات والرذائل حتى وصل بنا الحال إلى ظاهرة (المهرجات) التي أصبحت ورم خبيث يصيب الجسد المصري .
فكان قرار الفنان (هاني شاكر) نقيب المهن الموسيقية بمنع أغاني (المهرجانات) فكان القرار بمثابة مشرط جراح وضع يده على بيت الداء ليستئصال هذا الورم الخبيث ، القرار يحتاج تضافر الجهود والدعم من الدولة بإعلامها المرئي والمسموع والمكتوب لنفض الغبار عن الثوب الجميل للفن المصري .
وحتى لا ندفن رؤوسنا في الرمال مثل النعام أجدني أسفًا لعرض بعض النماذج لكلمات هذه الظاهرة من أغاني (المهرجانات) لندق ناقوس الخطر من هذا الورم اللعين .
ففي مهرجان (البنت البمبي) للمدعو (حمو بيكا) تقول الكلمات :
عليك بانتي عاوز جوانتي
فى السانتى يدخل بشفه
نسوان ذئب وسو
وبيبع الحب ليلاتى
تعبانه من تحت الصره
أول مايبيطلع بره
يندهلى يقول يافلاتى .
وفي مهرجان (أمك صاحبتي) للمدعو (حمو بيكا) تقول الكلمات :
أصحى ياللي أمك صحبتي
خالتك كمان كانت فردتي
وأختك بترقص على مطوتي
أحسن من ايها سرسجي
يابني لو تلتحم العدة
يبقى الدخول جامد وبشدة
الحاجة واقفة مش مستعدة
حيبقى خلفي ولا أمامي .
وفي مهرجان (إنتحار علي خط النار) للمدعو (حمو بيكا) تقول الكلمات :
أب عنده بنته ومراته
وبنته هايجة
وولعت نارها
ومن مراته كترت طلباته
والبنت ليل نهار قاطعة
وأبوها دوغري مشقلطها
بتخش في الضلمة في متعة .
كلمات تحكي قصة أب عاشر أبنته التي أثارت شهوته حين رأها تلعب رياضة .
كلمات هي قمة في السفالة والانحطاط الأخلاقي دون وازع من دين أو حياء .
نهيك عن
مهرجان ( كل البنات ببلاش)
مهرجان (البنت مديحة)
مهرجان (بز الموزة)
مهرجان (حريم زينة)
مهرجان (البنت الفرسة)
هذه المهرجانات تحمل من الكلمات ما يصعب عرضه فهي تحمل في طياتها وبين ثناياها كل الضعة والحقارة التي يندى الجبين لذكرها .
أكرر أسفي و اعتذاري لما يحمل هذه العرض من سفالة وتدني أخلاقي ،
نحن في حاجة إلى قرار سيادي لمنع هذا الوباء من الإنتشار قرار يعيد الفن على كافة الأصعدة إلى ريادته العربية التي كنا يوما نزهو بها .
قصدت عرض نماذج لبعض الأغاني لعقود ما قبل السبعينيات ونماذج لبعض أغاني عقود الفساد والإفساد التي طلت علينا بثوب خليع قاصدا المناظرة بينهما والتي قد تبرهن سبب ما آلت إليه أخلاق الأجيال الناشئة وحتى نتيقن بما لا يدع مجال للشك بإن بعض الكلمات نور وبعضها قبور فلزاما على الدولة حماية النور من هاجمة خفافيش الظلام .