الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 02:17 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. ريهام نبيل حفناوي تكتب : المعذبون في الأرض

د. ريهام نبيل حفناوي-
د. ريهام نبيل حفناوي-

"الانتقام مثل شرب السم وانتظار موت عدوك"
من هذا القول المأثور للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، نبدأ رحلة استكشافية في النفس الإنسانية عن أثر الانتقام. نتصوره أحيانا ردًا على الظلم، لكنه في الحقيقة هو تدمير للنفس، شبح يستنزف الطاقة الروحية والعقلية للإنسان، ويحول حياته إلى دائرة من الألم والكراهية.
في لحظات الضعف والظلم، قد يبدو الانتقام حلًا سريعًا يشفي الغليل، لكنه في الواقع لا عِلاقة له بالشفاء ... فهو الداء. هنا نطرح على أنفسنا سؤالًا إشكاليًا: هل الانتقام حقًا من مهام الإنسان على الأرض، أم هو اسم من أسماء الله العظيم؟ ولا مجال لبشر في المهام الربانية، هل أهل الانتقام أهل قوة أم أهل ضعف؟
من هنا نبدأ الحكاية...
من الكتب التي تركت أثرًا عميقًا في ذهني خلال دراستي للدكتوراه كتاب "المعذبون في الأرض" لفرانس فانون. كتاب أفادني إنسانيًا حتى إنني اعتبرته مرجعًا في تطور شخصيتي، كما وثقته في أطروحتي. هذا الكتاب يعد من أهم الأعمال التي كتبت عن تاريخ النضال الجزائري وعن المستعمر الفرنسي الظالم، والأهم أنه من الكتب القلائل التي توصلت لها تتناول آثار الاستعمار على النفس الإنسانية. الكتاب لفرانس فانون، الطبيب النفسي والفيلسوف الذي شارك في ثورة الجزائر ضد الاستعمار.
خلال هذا الكتاب، يعرض فانون آثار الاستعمار على الشعوب المستعمرة، ولا سيما الاستعمار الفرنسي على الجزائر. بواسطة توثيق قناعاته بأدلة وقصص من الواقع، يوضح فانون أن الاستعمار يولد ما يُسمى "العنف المضاد"، وهو معترف أنه حق مكفول للشعوب التي عانت من الاستعمار، بالرغْم العجز الذي تصاب به النفس الإنسانية من جرّاءِ الفقد والحزن والتدمير. هذه وجهة نظر الكاتب، سواء اتفقنا معها أم اختلفنا، لكنها تفتح بابًا للنقاش حول طبيعة العنف والانتقام.
فانون، طبيب نفسي وفيلسوف، يحدد آليات الاستعمار وكيف يسلب هُوِيَّة المستعمر. يؤكد أن المظلوم قد لا يجد سبيلًا للدفاع عن نفسه إلا العنف ...شر لابد منه ... مطلوب بالرغْم ما يخلفه هذا العنف من جروح نفسية عميقة ... من قتل للسلام الداخلي ... من توحش للأخلاق ... من غلظه للقلب.
ربما فكرة الحق في ثورات التحرر ضد المستعمر هي ما اعتدت على قراءته، خاصة من المتعاطفين مع قضية الجزائر، حتى لو كانوا فرنسيين. جميعهم يتفقون على أن الانتقام حق وجزاء لكل معتدي. لكن فانون يذهب أبعد من ذلك، حيث يصف الانتقام بأنه "غريزة بقاء". لا مجال للحياة دون الانتقام من المعتدي، فالانتقام هنا ليس مجرد رد فعل، بل هو محاولة للردع والبقاء في عالم يشبه الغابات، حيث البقاء دائمًا للأقوى.
الجديد بالنسبة لي في كتاب فرانس فانون أنه مُمتلِئ بحالات واقعية لمرضى نفسيين لجأوا إليه بصفته معالج. وما يزيد الأمر أهمية أن هؤلاء المرضى كانوا من الجنود والضباط الفرنسيين المجندين في ساحات المعركة. إحدى هذه الحالات هي حالة لن أنساها أبدًا. لم أتخيلها فقط، بل رسمت معالمها في خيالي، ليس تعاطفًا معها، بل عبرة لي وأنقلها لكم.
حالة ضابط فرنسي عاد من الجزائر إلى عيادة الطبيب النفسي، يعاني من دمار أصاب نفسه من جرّاءِ اعتداء بلاده على أصحاب الحق. يروي فانون تفاصيلها، حيث يُعد المريض أحد "المعذبون في الأرض"، أهل الانتقام. حالة مريض يعاني من سماع صوت أنين ليلًا ونهارًا، لا يعلم مصدره. كل ما يشعر به هو أن هذا الصوت يطارده ليلًا ليخطف النوم من عينيه، حتى فقد الإحساس بالراحة ونعمة النوم. يتكرر الصوت طوال النهار، ويسلمه إلى الليل، وتتعاقب السلسلة حلقة تلو الأخرى. لا يجد المريض حلًا للتخلص من هذا الأنين المخيف إلا البحث عن مصدره ليكتم أنفاسه. سريالية غير مفهومة للنفس الإنسانية المصابة بهذه الآفة.
يبدأ المريض رحلة بحثه عن مصدر الصوت. يتخيل أن لعب ابنه الصغير هي المصدر، فينهال عليها ويحطمها، ويحطم قلب ابنه معها. ثم يتخيل أن زوجته هي مصدر الأنين الغامض الذي يعكر صفو حياته، فيدفعه ذلك لمحاولة التخلص منها، لكن زوجته تهرب بصحبة ابنها من الجحيم، تاركة إياه وحيدًا مع صوت العذاب. يتجه المريض إلى منازل الجيران، يتهمهم بالتآمر على نومه، ويتمادى في شره ليصل إلى سكان الحي والمارين في شوارع البلدة. في النهاية، يُودع المريض مستشفى الأمراض العصبية والنفسية خَشْيَة إيذاء المزيد من الأبرياء.
هنا، تُعهد حالته إلى فانون، الطبيب الذي حاول اكتشاف سر عذابه. بعد أن وجه إليه عدة أسئلة محاولًا اكتشاف سر معضلة المريض.
عندما قص الضابط تفاصيل مهمته على فانون، كان يبدو كأنه "مايسترو" يُدير عزف مقطوعة جنائزية دون توقف. فقد عُهد إليه بتعذيب السجناء والانتقام منهم، ردًا على هجومهم على المعتدي. ومع تزايد عدد المعذبين ونقص عدد الضباط المكلفين بالتعذيب، فرضت حكومة المعتدي قانونًا جديدًا: يجب على الضباط أداء مهمة التعذيب لمدة عشرين ساعة متواصلة، مع ترك أربع ساعات فقط للراحة. كان هذا النظام قاسيًا، حيث يستمر دون توقف بسبب قلة الضباط.
هنا، تجرع الضابط سم الانتقام. لم يكن فقط ينفذ أوامر التعذيب، بل أصبح أيضًا ضحية للنظام الذي خدمه. تحول إلى سجين لأفعاله، حيث دمر نفسه روحيًا ونفسيًا. هذه القصة ليست مجرد حالة طبية، بل هي مرآة تظهر كيف يمكن للانتقام أن يدمر النفس الإنسانية، حتى لو كان المنتقم هو المعتدى ظاهريًا. الضابط الفرنسي، الذي كان يُفترض أن يكون جزءًا من آلة القمع، أصبح ضحية لعمله. تجرع سم الانتقام، ودمر نفسه، وأصبح سجين لأفعاله وهو الذي يعتلي موقع القوة.
عندما تعمقت في قراءة هذا الكتاب، انفصلت عن فكرة أن المضمون هنا يمس فقط إشكالية سياسية تمثل صراعًا بين مستعمر أجنبي وأصحاب الحق. بدأت أنظر من وجهة نظر إنسانية لمفهوم الانتقام وآثاره، التي تنقش بمخالب وحش كاسر على صفحات النفس البشرية. هنا تحققت فعليًا من مقولة أن العنف يولد عنفًا: سلسلة لا تعرف أي حلقة فيها هي حلقة البداية. ومع مرور الزمن، يختفي تمامًا السبب الذي يمثل شرارة البداية، لكن حلَقات الانتقام تستمر حلقة تلو الأخرى، مثل نار تحرق في طريقها الأخضر واليابس.
هذا الضابط، الذي جُند للتعذيب وصب نار الانتقام على الآخرين، طاله لهيبها في النهاية. أصبح ضحية للنظام الذي كان جزءًا منه، مما يُظهر كيف أن الانتقام لا يفرق بين المعتدى والضحية. هذه الدائرة من العنف لا تقتصر على الأفراد، بل تمتد إلى المجتمعات بِرُمَّتها. عندما يفقد الناس القدرة على التمييز بين الظلم والانتقام، يصبح العنف لغة التواصل الوحيدة، مما يؤدي إلى تدمير القيم الإنسانية. الضابط الفرنسي ليس إلا مثالًا واحدًا على كيف يمكن أن يتحول الإنسان إلى أداة لتدمير نفسه والآخرين.
ولو انتقلنا إلى الأدب، سنجد العديد من قصص الانتقام التي أفسدت على أبطال مملكة الحب مصيرهم. مشهد عبقري، في مسرحية "السيد" لكورني، تتحول قصة حب بين شاب وفتاة إلى سلسلة من الانتقامات منذ أول شرارة. بعد أن كانت البلدة تستعد لإقامة حفل زفاف العاشقين، أنقلب الحال بسبب حماقة الكبار واجتمعوا المارة في ميدان المدينة ليشهدوا مبارزة انتقامية لاسترداد كرامة والد البطل "رودريج". أسفرت هذه المبارزة عن مقتل والد حبيبته "شيمن". هنا تنقلب الأدوار ونبدأ حلقة جديدة من الانتقام: تخرج الفتاة لتطالب بالانتقام من قاتل والدها، وتستمر حلَقات الانتقام واحدة تلو الأخرى. ولولا إبداع كورني، ما كنا عرفنا حل لهذه المعضلة ... "السيد" أنهى حلقات الانتقام بالعفو.
كورني هنا عالج مشكلة "المبارزة العشوائية"، التي ذاع صيتها في القرن السابع عشر، حيث كانت تُستخدم كوسيلة للانتقام واسترداد الشرف. لم يجد كورني إلا قلمه لمحاربة هذا الانتهاك المؤلم للمجتمع، حيث حاول بواسطة مسرحيته أن يُظهر كيف يمكن أن يؤدي الانتقام إلى تدمير العلاقات الإنسانية والأخلاقية. مسرحية "السيد" لم تكن مجرد عمل أدبي، بل كانت محاولة جادة لتغيير المفاهيم الاجتماعية السائدة حول الانتقام والشرف. بعرض عواقب المبارزات الانتقامية، حاول كورني أن يُظهر كيف يمكن أن يؤدي العنف إلى تدمير المجتمع من داخله. وكيف يمكن للأدب أن يكون أداة للتغيير الاجتماعي، حيث يُظهر كيف أن الانتقام لا يؤدي إلا إلى مزيد من العنف والألم
الانتقام لا يعيد الكرامة، بل يعمق التخريب. لا يُعيد الانتقام ما فقدناه من سلامة القلب، بل يُحول النفس إلى سجين لألمها. إنه ليس إلا "صفقة مع الشيطان": ابتلاء يُخرج الإنسان من النور إلى الظلمات. كما قال ابن القيم: "فمن انتقم لنفسه هدم نفسه". الانتقام ليس انتصارًا، بل هو هزيمة روحية. ربما مواجهة العدو بالانتقام قد تُشفي الغليل مؤقتًا، لكن الانتصار الحقيقي يكون بالإحسان. عندما يُذيق الإنسان عدوه بالإحسان أضعاف ما كان يمكن أن يناله بالانتقام. "الانتقام ظاهره عز، لكن باطنه ذل، بينما العفو ظاهره ذل، وباطنه عز".
لا تقتفِ طريق الخاسرين، وكن نسخة أفضل من نفسك. الانتقام يُدمّر النفس، بينما العفو يُحرّرها. الحياة اختيارات، وعليك الاختيار: إما أن تكون عبدًا ملكًا لعدوك، أو ملكًا يملك مقاليد نفسه. حرّر قلبك من أغلال الكراهيَة وكن أنت "السيد" الحقيقي. لا تدع الانتقام يُسيطر عليك، بل كن أقوى من ذلك: اعفُ، وتحرّر، واترك الانتقام لمن هو أهل له. فالله هو أفضل المنتقمين، وهو وحده القادر على رد الظلم بعدل، وهو وحده الذي يُعيد التوازن بالحق والعدالة. "فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين

د. ريهام نبيل حفناوي المعذبون في الأرض الجارديان المصرية