الثلاثاء 22 يوليو 2025 09:45 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الكاتب الصحفي إسماعيل أبو الهيثم يكتب : فقه المداراة !!

الكاتب الصحفى إسماعيل أبوالهيثم
الكاتب الصحفى إسماعيل أبوالهيثم

عقب صلاة الجمعة الفائتة دار حوار مجتمعي في مسجد عابد بقريتي الرجدية مركز طنطا محافظة الغربية ، حول أيهما أفضل للإنسان الإختلاط بأفراد المجتمع علي ما فيه من مشاحنات ومضايقات ، أم العزلة تجنباً لهما ؟
وفي ردي علي السؤال ، قلت : الحقيقة إني أميل إلى أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ، تأسيسا علي توجيهات الحديث الشريف : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". ومخالطة الناس تعني التفاعل والتواصل والتعايش معهم في مختلف جوانب الحياة. وليس التفاعل والتواصل فحسب ،؛ بل الصبر علي ما يصدر منهم من أقوال أو أفعال مزعجة أو مؤذية، مع عدم مقابلة السيئة بمثلها. باعتبار أن الصبر على أذى الناس هو سمة من سمات المؤمن القوي، وأن هذا الصبر له أجر وثواب كبير.
ومما ينفر من عدم التعاون بين الناس ما ورد "عن ابن عمر ( رضي الله عنهما) أنه قال : لقد أتى علينا زمان – أو قال : حين- وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، مع اني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، يقول، يا رب! هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه!!

وهناك حديث ثالث يعضدد ما سبقه من احاديث ، بل يزيد الأمر أهمية عظمي ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وعلي اله وصحبه وسلم، أنه قال : « من عاش بين الناس (مداريًا) مات شهيدًا» ألا ما أجمل النتيجة ، الشهادة !!? اللهم ارزقنا المداراة وأكرمنا بالشهادة ، فما هي إذن المداراة ؟

المدرارة في اللغة: مصدر دارى، يقال: داريته مداراة: لاطفته ولاينته، ومداراة الناس: أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم؛ لئلا ينفروا عنك .
واصطلاحا: (المدَاراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول ، وذلك من أقوى أسباب الألفة،

وليس صحيح علي الإطلاق أن نكون المداراة هي المداهنة ، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق بينهما أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه.

كما أنه من المؤكد ألا توجد ثمة ارتباط بين المداراة والتقيّة
لأن المداراة لا تعني أنَّ الآخر سيّء العِشرة فتُداريه تلافيًا لشرّه، بل هي – في أصلها- موافقة الآخر في مزاجه ومسايرته في نمط عيشه، حرصًا على استقرار الصّداقة ودوامها، إذ إنَّ اختلاف الأمزجة وأنماط العيش حقيقة إنسانيّة لا يمكن تدارك سلبياتها من قبل الطّرفين إلّا بالمداراة، أمَّا إذا كان الّذي تُداريه سيّئ العِشرة رديء الأفعال، فيُخاف من بواثقه ويُخشى شرّه، فإنَّ ذلك يخرج بالمداراة عن كونها علاقة أخويّة لتصير نوعًا من التقيّة وحماية الذّات من شرّ الآخر وخضوعًا قهريًّا لرغباته، وهو ذلك الذي اعتبره الإسلام شرّ النّاس ، إذ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: “شرّ النّاس عند الله يوم القيامة الذين يُكرَمون اتّقاء شرّهم”

وليس بخفي علي أحد أن مُخالَطة النَّاس ومعاملتهم من لوازِم الحياة، والنَّفس مفطورة على المعايشة والاستِئناس بغيرها، ولَمَّا كانت النفوس غير متشابهة، والطَّبائع مختلفة، أصبح لِزاماً على الإنسان أنْ يُعامل ويعاشر الناس بالحسنى ويُداريهم، ، ويحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنه .

فما هي مظاهر المداراة؟ تتمثّل المداراة في الأمور الآتية:
أ- الحرص على إدامة المودّة بمثل المدح والهديّة والزيارة ونحوها.
ب- البُعد عن كلّ ما يُزعج الآخر من الأقوال والأفعال.
ج- تجنّب العتاب والملامة قدر الإمكان، بنحو يَظهر منه عدم المبالاة بالهفوات الّتي تصدر عادة من كلّ إنسان.
د- جعل التّسامح ورحابة الصّدر أساسًا في كلِّ علاقة.

ومن أولى النّاس بالمداراة ؟

إن أولى النّاس بالمداراة هم أهل الإنسان وعياله، وزوجته لأن المداراة مع الزوجة تعد.من أهم أدوات الحفاظ على الحياة الزوجية : ولما لا والمداراة تعتبر من أهم الأخلاق وأنفعها لبقاء المودة والحب والتفاهم بين الزوجين، وهي سبب من أسباب تجاوز العقبات أمامهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهنَّ خُلِقنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا)
ثم تتسع دائرة المدراة لتشمل الأرحام ، لإنَّ كثرة المعاشرة بينهم واختلاف أمزجتهم، يجعلهم أحوج ما يكون إلى مداراة بعضهم للبعض الآخر، والعمل من أجل استرضائهم وسعادتهم!!

ولم تقتصر المداراة علي الأسرة والأرحام بل تمتد لتشمل كافة الناس لأن الله تبارك وتعالى يحبّ أن يداري عباده بعضهم بعضاً وذلك بأن يتجنبوا فعل كل ما يؤدي إلى سخطهم أو يثير حفيظتهم, فالمداراة بين الأقارب والزملاء والعائلة والأصدقاء عمل حسن ويوجب الكثير من الأجر والبركة.

فكل من يتحلّى في حياته بمداراة الناس ويتجنب ما يسخطهم سيكتبه الله تعالى في الآخرة من الشهداء، ويجازيه بأجر الشهداء كما ورد في الحديث الشريف عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: «من عاش بين الناس مدارياً مات شهيداً»

وليست مداراة الناس بالأمر الصعب ، بل على الإنسان أن يصمم على الإلتزام بها ويطلب العون والتوفيق من الله جلّ وعلا, ويكون ممن قال عنهم سبحانه وتعالى قول الله سبحانه: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (الأنعام:٨٢) ويفهم من الآية: إن المؤمنين الذين لم يصدر منهم الظلم سواء كان ظلماً للنفس أو للآخرين هم الذين يحظون بأمان الدنيا والآخرة.

وقد حفل القرآن الكريم بالعديد من الآيات الداعية لتفعيل المداراة بين الناس ، قال الله تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة فصلت: ٣٤ـ٣٦].

وقال تعالى:{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }{(الأعراف: ١٩٩) (خُذِ الْعَفْوَ }, بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين , والأخذ بالشيء هو لزومه أو عدم تركه, فأخذ العفو هو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه ، والإغماض عن حق الانتقام الذي يعطيه العقل الاجتماعي لبعضهم على بعض, وهذه المفردة فيها بيان أنّ أخلاق الناس وطبائعهم ليست واحدة ، بل هم متفاوتون في ذلك؛ لذا لا ينبغي على صاحب الخلق الحسن ان يأمل من كل من يلقاه أن يكون مثالياً في أخلاقه وفي تعامله ، لأن من النَّاس من هو سريع الغضب ، ومنهم من هو سريع الانفعال ، ومنهم من هو هادئ سمح, وإلى آخره ، فعليه ان يهيئ نفسه لملاقاة هذه الأنواع والأصناف المتباينة من الأخلاق ويأخذ ما سمحت به نفوس الناس منها.ليؤصل بذلك اسلوبا رصينا في التعامل مع الآخرين, وقد ذكر علماء الأخلاق والتفسير والفقه أنّ هذه الآية تعدّ من أمهات الآيات التي جمعت أُصول علم الأخلاق.

و قوله تعالى: { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ }, أي : ما تعرفه الفطرة البشرية ، أي : ما يعرفه العقل من الحسن والقبح ،; لأنّ الدين الإسلامي دين الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}, وبعبارة أخرى: تلقّى أخلاق الناس باللِّين ، واللطف ، والمسامحة ، وغض الطرف ، وحُسن التعامل, وكن ناصحاً موجهاً بالرفق واللين ، حريص على دلالة الناس وهدايتهم إلى كل فضيلة والى كل خير .

ثالثا: قوله سبحانه{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }, وهذا مطلب عظيم في باب الاخلاق, وهو أيضاً نوع من أنواع اللّين والرفق ، وفرق ما بين الإعراض عن الجاهل وبين العفو عنه ، لأنّك قد تعفو عن إنسان مّا ، ولكن يبقى في نفسك شيء تتذكّر به ذلك الفعل السيّء الذي فعله ذلك الجاهل ، والمقصود من الجاهل هو ذلك الشخص الذي يتعدّى الحدود ويظلم ، والجهل هنا مقابل العقل الذي يعني : التقيّد بالتعاليم الدينية ، وليس الجهل هنا في مقابل العلم ، لأنّ العلم قد يدعوك إلى التعقّل ، وقد يسيء الإنسان الاستفادة من العلم .

فالإعراض عن الجاهل بمعنى عدم الالتفات الى عباراته الجاهلة ، وألفاظه النّابية ، وكلماته السيئة ، ومعاملته الفظّة الغليظة ، وترويض النفس على ذلك ، أما إذا وقف الإنسان مع جهالة الجهَّال ورُعوناتهم وسوء تصرّفاتهم فإنه سيجد صعوبة في حياته ومعاناة شديدة ، فضلا عن تحوله إلى جاهل مثلهم يجهل عليهم بمثل جهلهم عليه.
إذن عندنا ثلاثة ركائز في باب التعامل مع الآخرين أرشد إليها القران الكريم، الأوّل : هو العفو والصفح ، وهو أن تسامح من اعتدى عليك. والثاني : الأمر بالعرف وهو ان تلقى أخلاق الناس باللِّين واللطف والمسامحة مع الحرص على دلالتهم وهدايتهم إلى كل فضيلة والى كل خير ،والثالث : الإعراض وهو أفضل من الاول والثاني، إذ هو نسيانك وغض الطرف عما صدر من المسيء وانك قد عفوت عنه .

وبناءا عليه :

فإنه طالما كان الإنسان مدنيا بالطبع فإنه أحوج ما يكون الى معرفة سبل التعامل مع بني جنسه ليصل الى تحقيق أهدافه وغاياته , وعبارة كون الإنسان مدنيا بالطبع هي كناية عن الإجتماع البشريّ، ومعنى هذا أنّ المنفرد من بني البشر لا يمكنه ان يحيا ويتمّ وجودُه إلّا مع أبناء جنسه، للعجز الذي يعتريه فيحول ذلك دون استكمال وجوده وحياته، فهو بأمس الحاجة إلى معونة الآخرين في جميع احتياجاته ، وهذه المعونة المجتمعية قد تذلل الصعاب أمام الفرد في تحقيق غاياته وأهدافه, والتي لولاها لما استطاع ان يحرك ساكنا, ولإحراز واستحصال هذه المعونة لا بدّ للفرد من اتقان مهارة التفاوض والتعامل مع الآخرين بأسلوب يؤدي الى نتيجة جامعة بين قوة الترابط الإجتماعي وتحقيق الأهداف والغايات، فمن خلال قوة الترابط الاجتماعي يكون الفرد قادراً على التعامل مع الآخرين كاعتماد مبدأ الصفح في التعامل مع الناس فهو بحدِّ ذاته تأصيل للرحمة بين الناس، وإيجاد أسس قوية للتواصل بينهم, ومن أبرز سماتها: المودة، والتقارب، والألفة.

نصيحة :

لتكن مرونتك العقلية درعك الشخصي ضد القوى السلبية. وهذا جزء مهم لحماية نفسك من خوض نقاشات مع الجاهلين الذين تجبر على التعامل معهم. فكّر بكيفية استجابتك للسيناريوهات الصعبة وهنئ نفسك على قدرتك على إدارتها جيدًا. علي هدي من الآيات سالفة الذكر والتوجيهات النبوية .

الكاتب الصحفي إسماعيل أبو الهيثم فقه المداراة !! الجارديان المصرية