الثلاثاء 15 يوليو 2025 01:01 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

مروة نايل تكتب : الموهبة والمهارة.. منجم الذهب وبصمة الصائغ

الكاتبة مروة نايل
الكاتبة مروة نايل

في أعماق الجبال، أو تحت طبقات الأرض الصلبة، ترقد كنوز لا تُرى بالعين المجردة، ولا يصل إليها إلا من امتلك الشغف، والجرأة، وأدوات الاكتشاف. كذلك هي الموهبة في داخل الإنسان: جوهرة خام، تنتظر من يزيل عنها الغبار، ويمنحها الحياة. الموهبة لا تُشترى، ولا تُستعار، بل تُولد معنا، تظهر في ملامح الطفولة، وتلمع في لحظات التميز غير المقصودة.
ومع ذلك، تبقى الموهبة وحدها غير كافية. فكما لا يتحوّل الذهب الخام إلى تحفة دون يد صائغ، لا تصبح الموهبة أثرًا يُذكر إلا إذا اقترنت بالمهارة. المهارة هي تلك النار التي تُبقي الشغف حيًا، وهي اليد التي تصقل، والعين التي تميّز، والعقل الذي يُبدع. إنها الفأس التي تشق طريقك إلى منجم الذات، والنور الذي يضيء عتمة الاحتمالات.
حين يجتمع الاكتشاف بالجهد، يتحوّل الإنسان إلى صائغ فريد. لا يكتفي بأن يعثر على الذهب داخله، بل ينقّيه من الشوائب، ويعيد تشكيله بلمسته الخاصة. فالموهبة، مهما بلغت من النقاء، لا تتحول إلى إبداع حقيقي إلا حين تُروى بالمثابرة، وتُدار بعقل واعٍ، وتُغذّى بشغف لا يعرف التراجع.
والتاريخ مليء بأمثلة لأشخاص لم يولدوا في دائرة الضوء، لكنهم تجرأوا على الحفر في دواخلهم، واكتشفوا جواهر لم يكن أحد يتوقعها. بيتهوفن، مثلًا، لم يمنعه الصمم من أن يسمع الموسيقى بعين قلبه، ويكتب بها تاريخًا جديدًا للفن. ج. ك. رولينغ، كانت على حافة الانهيار، بلا وظيفة، حين خطرت لها فكرة رواية "هاري بوتر" على متن قطار، فتمسكت بها، وكتبتها رغم كل الظروف، حتى أصبحت واحدة من أنجح الكاتبات في العالم. مايكل جوردن، الذي رُفض في بداياته من فريق المدرسة، لم يستسلم للخذلان، بل جعله دافعًا لصقل مهاراته حتى أصبح أسطورة رياضية لا تُنسى.
وفي عالمنا العربي، نماذج لا تقل إلهامًا. نجيب محفوظ كتب بروح المثقف الملتزم، لا طلبًا للجوائز، فحصل على نوبل لأنه كتب بصدق. أم كلثوم، التي اكتشف والدها صوتها وهي تقلد التواشيح، أصبحت لاحقًا "كوكب الشرق"، لأن أحدهم آمن بموهبتها ورافقها بالصقل والتدريب. أحمد زويل، ابن البيئات البسيطة، لم يمتلك سوى فضوله العلمي، لكنه حوّله إلى إنجاز عالمي غيّر به فهم البشرية للزمن على المستوى الذري.
غير أن المبدع، مهما بلغ، ليس محصنًا من التعثّر. فالإبداع لا يجري على وتيرة واحدة. إنه أقرب إلى نبع داخلي قد يجف حينًا ويفيض حينًا آخر. تلك اللحظات التي يقف فيها الكاتب أمام الورقة البيضاء، أو الفنان أمام فراغ الفكرة، لا تعني أن الموهبة قد خانت، بل أن الإلهام قرر أن يأخذ استراحة. وقد اعترف كبار المبدعين بهذه الفجوات، بما فيهم همنغواي، الذي كتب ذات مرة: "أفضل طريقة للكتابة أن تتوقف وأنت لا تزال تعرف ما سيحدث بعد ذلك"، لكنه هو نفسه خاض فترات طويلة من الجفاف الإبداعي. دوستويفسكي، رغم عبقريته، توقف عن الكتابة لأشهر طويلة، وعاد منها ليكتب أعظم رواياته. حتى نزار قباني، الشاعر الغزير، تحدّث عن أوقات هجرتْه فيها الكلمات، فلم تطرق قصيدته الباب كما اعتادت.
في تلك اللحظات، لا تكون المهارة في الكتابة أو الرسم أو العزف فقط، بل في الصبر على الانتظار، والإيمان بأن الغياب مؤقت، وأن الإبداع أحيانًا ينضج في الصمت.
ومن ذكاء المبدع أن يدرك متى يحتاج إلى التحوّل، لا فقط في أسلوبه، بل في رؤيته. فالتكرار قد يكون راحة، لكنه قد يتحوّل إلى قيد. أن تكتب ما اعتدت عليه قد يجذب القارئ مرة واثنتين، لكن الجرأة في المغامرة والتجديد هي ما يصنع الفرق. قال جان بول سارتر: "حين يختار الكاتب موضوعه، فإنه يختار قراءه في الوقت نفسه"، إشارة إلى أن الكتابة مسؤولية مزدوجة: مسؤولية الكلمة، ومسؤولية من تُقال له.
لذلك، لا يكفي أن نكتب ليُقال إننا نكتب. بل نكتب لأننا نريد أن نفهم أنفسنا أكثر، أن نكتشف صوتًا جديدًا فينا، ربما لم نسمعه من قبل. الكاتب أو الفنان أو الحالم، لا يجب أن يخشى مغادرة مرفأه الأول. فربما في التيه يكتشف صوته الحقيقي، وتولد منه تجربة جديدة لا تُشبه ما سبق.
إننا نعيش في زمن لم يعد فيه السؤال: هل تملك الموهبة؟
بل أصبح: ماذا فعلت بما تملك؟
هل بحثت عنها؟ هل طوّرتها؟ هل تجرأت على تنميتها؟
في داخل كل إنسان منجم ينتظر الاكتشاف، وفنّ يحتاج إلى التشكيل.
الموهبة هي البداية، لكن المهارة هي الطريق، والتحدي هو المحرك، والرحلة هي الغاية. والنتيجة؟ إنسان يعرف ذاته، ويترك أثرًا لا يُنسى.
فلا تنتظر أن يُعترف بك قبل أن تعترف أنت بنفسك.
ازرع بذرة الثقة، واسقها بالاجتهاد، وابدأ الآن — لأن اللحظة التي تقرر فيها أن تبدأ، قد تكون اللحظة التي يتغير فيها كل شيء.

مروة نايل الموهبة والمهارة.. منجم الذهب وبصمة الصائغ الجارديان المصرية