ومضات ...
الكاتب الكبير علاء عبدالعزيز يكتب : الطبله والمزمار.


احدهما كان يضرب الطبله الكبيره والاخر كان يحترف المزمار ، خلف "المعجباني" كان علي الطبله ، وحسين "ابو عروق نافره" ينفخ في المزمار ، ينتظرون المناسبات السعيده كي تسمع حارتنا طبول الفرح ورنه المزمار التي تنعش النفوس وتعلي الاحساس بالفخار ، لم يكن الاثنين اخوه بالنسب، بل جمعتهم اخوه الحاره ، تتجاور بيوتهم في اخر الحاره فيسمع من هو علي بابها مالذي يحدث في اخرها من اصوات موسيقيه تنطلق في اخر الحاره فيسأل عنها فيباغته عابر:
انها بروفا يوميه لخلف وحسين تأهبا لاسعاد الناس.
لم تكن الطبله والمزمار هي مهنه خلف وحسين الاساسيه بل لجأوا اليها بعد عام من تخرجهم من كليه التجاره، وقضائهم عاما كاملا يصطفون في طابور العواطلية ومن ثم لجأ خلف لمهنه ابوه في الضرب علي الطبله ومنح الله حُسينا نفسا طويلا ونحرا طويلا ممتد يساعده علي النفخ في المزمار ،واستحسن بعد عام فكره صاحبه خلف في تكوين فرقه شعبيه من اثنين ، وفي يوم وليله تغيرت هيئه خلف وحسين ،ارتدوا الجلباب وخلعوا عن اجسادهم اثواب الافنديه ، تأتي عليهم ايام الاحاد والخميس فيرتدون الجلابيب السكروته والعمامه البيضاء ويغادرون منازلهم المتجاوره بحثا عن الافراح في الحارات .
قليلا كان يسخر منهم الناس وكثيرا كانوا لايبخسون لهم حقا بل يحفزونهم عما يفعلون ويعملون ، ليس لديهم وكيلا للاعمال ، ولكن الوكيل كانت اقدامهم التي بها يقتلون الشوارع والحارات بحثا عن فرح لقيط ولقطه ، فيُقَدر صاحب الفرح فنهم المبهج ويُجزل لهما العطاء .
لم يقتصر عمل الاثنين علي الاعراس فقط ، بل كانوا يحيون شتي المناسبات السعيده من طهور لنجاح لاعياد ميلاد خلال ايام الاسبوع ، ولكنهم خصصوا الاحد والخميس فقط لاحياء الافراح.
اهل الحاره البسطاء والذي لديهم ايمان بالفطره كانوا يستقبلونهم بالترحاب بل كانوا كثيرا مايُقدرون سعيهم احسن تقدير ، وكانت الامور تمشي انذاك لهم علي الطبطاب ، حتي سكن غازي المتدين الوهابي الاصولي وسط الحاره ، وحذر اهل الحاره منهم ومن طبلتهم ومزاميرهم، كما حَذر علي اهل الحاره البهجه واقنعهم ان سماع الطبله والمزمار من المحرمات ورويدا رويدا حرم غازي علي الاثنين "خلف وحسين "العمل في الحاره ومنحْ البهجه لابنائها ، فهرع الاثنين الي الحارات الاخري لطلب الرزق وادخال البهجه علي النفوس ، ولكن المشكله الان ان معظم الافراح التي يهرعون اليها للإِحياء يجدون فيها احد الغازين الملتحين ، وبعد ان يبدأ الاثنين عرضهم في مداخل البيوت وعلي ابواب الخيمات ، يسمعون اصواتا تأتي من فوقهم تنهيهم عن الطبل والنفخ في المزمار ، فيُسلمون بالامر الواقع ويقنعون ببعض المال الذي لم يقرعوا من اجله طبله ولانفخوا حينها بمزمار ، تلكم الاموال البسيطه التي نقدها لهم صاحب العرس بعد اول قرع طبل واول نفخ مزمار حينها بادرهم سريعا:
شكرا ارجوكم لانرجو ازعاجا ، خدوا القرشين دول وحنن الله عليكم، وكأنهم اثنين من الشحاذين جاؤا لطلب صدقه وليس لادخال البهجه علي النفوس!! .
من يومها واصحاب البهجه عزفوا عن تقديمها لاهل الحاره ، وخلعوا جلبابهم السكروته وعادوا لثياب الافنديه وهجعت الطبله وبح صوت المزمار ، وفرح غازي ايما فرح وحزن اهل الحاره غايه الحزن واصابتهم امراض الاكتئاب بفضل نصحه لهم بأن القضاء علي الطبله والمزمار اهم من القضاء علي الاستعمار واعوانه، وقضي غازي بقضاءه علي الطبله والمزمار علي سبوبة عيش ودخل اثنين من أسر الحاره ، اضحي غازي فجاه غنيا وتعجبت الحاره انذاك ماسبب هذا الغني الفاحش وغازي لم نراه يوما موظفا مهما ولا صاحب ورث ولم يتقن اي حرفه تميزه في جلب الاموال ، ولكنهم عرفوه سليط اللسان يحترف الكلام في الفاضيه قبل الملأ، وكان اهل الحاره لايقومون له وزنا لديهم ، ولكنه في الفتره الاخيره احترف الكلام في الدين نهيا ونهيا ونهيا حتي تصدر المشهد ، حتي المناسبات الدينيه التي كان يحتاج اهل التصوف فيها "لخلف وحسين" قود افراحها ونفحاتها "غازي الوهابي الاصولي" بنشر المغلوط ونسبُه الي الدين، واهل الحاره يعشقون الدين والتدين ويحمِلون كلام غازي محمل الثقه، تلكم الثقه العمياء التي جلبت الي حارتنا الاكتئاب والغباء من بعد ان كانت كل يوم تقام بها الافراح والليالي الملاح قبل ان يغزوها غازي.